اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
إن الأخلاق القيادية المبنية على الدين هي التي تجعل القيادة مبدئيَّة، وهي العروة الوثقى والرابطة الأقوى اللتان تحافظان على روابط التواصل بين القائد والتابعين له، بوصف ذلك يمثل الضمانة الأكيدة لفاعلية التأثير واستمرار تدفق تياره بعيدًا عن تآكل العلاقة وفتورها إلى الدرجة التي تؤدي بها إلى الانفصام،
كما أن الأخلاق القيادية والعلاقات الإنسانية بمثابة البوصلة التي تحفظ اتجاه سلوك القائد، وتضبط توازن علاقته مع محيطه والفضاء الذي يتحرك فيه، خاصةً عندما يحدث الاحتكاك بين أخلاقيات قيادته وسياسته وسلطته؛ حيث إن بوصلة القيادة يؤشر مؤشرها دائمًا نحو أخلاقيات القيادة مهما تنازعته السياسة والسلطة، وبفضل ما يتحلى به القائد من الفضائل الخلقية، وما يتمتع به من مكارم الأخلاق؛ فإن قراراته تكون ذات طابع مبدئي وسمة أخلاقية، حتى في أحلك الظروف وأقسى المواقف، بحيث يضبط نفسه عندما يغضب، فلا يخرجه غضبه عن الحق، ولا يدفعه إلى الظلم، وفضيلة السيطرة على الغضب تعتبر فنًّا قياديًّا، لا يتوفر إلا في قلة قليلة من القادة، تلك القلة التي غالبًا ما تكون قراراتها صائبة، وتصرفاتها محسوبة، وقد قال أحدهم: يجب التمالك عن كل غضب يوجَّه إلى رئيس أو نظير أو مرؤوس، فالخصام مع الرئيس ضرب من الجنون، ومع النظير ريبة، ومع المرؤوس ذل ومهانة، وقال بيسمارك: كن مؤدبًا، كن دبلوماسيًّا حتى عند إعلان الحرب، فالقائد يراعي قواعد الأدب في كل الظروف.
والقائد في أية منظومة قيادية - مهما كان مستوى قيادته - إذا ما امتلك ناصية الصفات القيادية والمهارات المهنية التي تؤهله للقيادة؛ فإنه يدرك المسؤولية الملقاة على عاتقه والتي بموجبها يكبح جماح السلطة، ويضعها في موضعها الصحيح، ولا ينحني أمام السياسة وبرجماتيتها، وإنما يتعامل معها بما يُحيِّد سلبياتها، ويضمن إيجابياتها، ولن يتأتَّى له ذلك حتى يتخذ الحكمة سبيلاً لضبط ممارساته وقراراته، ويتوفر له من تأثير شخصيته ما يدعم سلطته، ومن صفاته وحكمته ما يجعل من القيادة خدمة أكثر منها سلطة، وعندئذ يقود بقيادة القدوة، ويتحكم في سلوكه تجاه أتباعه، وتجاه الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، وتصبح قيادته مبدئيَّة بفضل تأسيسها على الصدق والعدل واسترشادها بالحكمة والحزم، والأخذ بمبادئ القيادة وصفات القائد على النحو الذي يجعل منها أرضية يتحرك عليها، ومرجعيَّة يرجع إليها، والمُثُل التي يتمثل بها القائد إذا لم يكن مطبوعًا عليها، ومتأصلة لديه، فمن الصعب بثُّها وتأصيلها في نفوس الآخرين والتأثير فيهم، فالتضحية والإيثار والولاء المتبادل على رأس القيم المطلوبة لخلق القدوة وضرب المثل، وكل ما من شأنه توثيق الروابط بين أعلى قمة الهرم وقاعدته.
والقائد كلما علا شأنه وارتفع مكانه تعاظمت مسؤولياته، وتكالبت عليه إغراءات السلطة وتناقضات السياسة، الأمر الذي تزداد معه حاجته إلى أن يكون مبدئيًّا، وأن يوفِّق بين مفهوم القيادة الذي يؤمن بدور الأخلاق والتعامل بمقتضاها وبين النظرة السياسية التي تؤمن بأن الغاية تبرر الوسيلة، وشتان بين المفهومين وموقفهما حيال السلطة ومنظومة القيادة ومشروعية الأهداف ومشروعية الوسائل المستخدمة للوصول إليها، إذ إن كلاً منهما يناقض الآخر، والسياسة عادةً ما يتم تقويم خطلها وإصلاح خللها من خلال منظومة القيادة التي تنظر إلى السياسة بارتياب لكثرة انحرافات القائمين عليها وبعدهم عن العقلانية ومغالاتهم في السلطة، بالشكل الذي يجعل شغلهم الشاغل ينصب على توزيع غنائمها والاستحواذ عليها على حساب الدين والأخلاق، ورغم أن ميكافيللي منسوب إليه تبنِّي الخبث السياسي ومبدأ الغاية تبرر الوسيلة؛ فإنه قد وصم السياسة بالبعد عن الأخلاق في قوله: على القائد أن يميز جيدًا بين القيادة والسياسة؛ فالقيادة تستند في وجودها إلى الأخلاق، بينما علم السياسة ليس له أي علاقة بعلم الأخلاق، السياسة كعلم لا تقوم على الأخلاق، وهناك سياسيُّون أخلاقيُّون، ولكن ليس هناك سياسة أخلاقية.
والسياسة ليس لها قواعد ثابتة تضبط حركتها، وتقنِّن أهدافها، بل تتغير تبعًا لتغيُّر أهداف السياسيين، كما أنه لا يوجد لها معايير للصواب والخطأ، أو مقاييس للمحاسن والمساوئ، وإنما تتلوَّن بتلوُّن أهدافها، وتتحرك من موقف إلى آخر بهدف الحصول على ما يمكن الحصول عليه من هذه الأهداف، وقد عرَّفها بيسمارك بأنها (فنُّ الممكن)، والممكن في هذه الحالة ليس له مرجعية محددة، ولا شرعية معتمدة، وإنما يهدف هذا الممكن إلى تبرير الوسائل التي يستخدمها السياسيون لبلوغ الأهداف غير المشروعة، وشرعنتها بإضفاء شيء عليها من الاحتيال السياسي، والسياسي قد لا يتحرج من أمر محرج، ولا يخجل مما يدعو إلى الخجل، فقد يغير هدفه وأسلوبه تبعًا لما يراه يخدم نفوذه، ويضمن مصلحته، دون أن يأبه بالآخرين، طالما هذا التغيير يفضي إلى سلطة يتطلع إليها، أو يؤدي إلى مصلحة ينشدها، ضاربًا بالأخلاق عرض الحائط، في حين أن القائد مهما غيَّر أساليبه؛ فلن يغير الأهداف باعتبار الأهداف هي حجر الزاوية في رؤيته القيادية ومشروعه القيادي، وتغيير ذلك يمثل خروجًا عن مبدئيَّة القيادة ونقضًا لما بايعه عليه الأتباع، وتحلُّلاً عن المسؤولية التي تعهد بحملها، ووعد مَنْ دونه بأن يضع كلًّا منهم في أحسن الظروف المكانية والزمانية لحمل ما يخصه من المسؤولية، والقائد بطبعه مفطور على السياسة والكياسة وينظر إليها من منظور يخدم القيادة، ولا يتعارض معها، وهي النظرة التي تتفق مع نظرة أنوشروان في قوله: السياسة هي استجلاب محبة الخاصة بإكرامها، واستعباد العامة بإنصافها.
وعلى الجانب الآخر فليس كل سياسي بمؤهل للقيادة، وقد قال الفيلسوف اليوناني أرسطو: يجب على كل قائد أن يكون سياسيًّا، ولكن ليس كل سياسي يمكن أن يكون قائدًا.
وانطلاقًا من مبدئية القيادة والتزامًا بأخلاقياتها؛ فإن أزمة اليمن قبل أن تصل إلى ما وصلت إليه من صدام مسلح؛ شغلت اهتمام الملك سلمان ومعه قادة دول مجلس التعاون، وحاولوا مرارًا وتكرارًا عبر العديد من القنوات ثني العصابة الحوثية عن العبث بأمن اليمن، والعدول عن الطريق المظلم الذي تسير فيه، وحذَّروا هذه العصابة تحذيرًا لا لبس فيه عما سوف يترتب على ذلك من تهديد لأمن دول مجلس التعاون والأمن القومي العربي، باعتبار أمن اليمن يمثل جزءًا لا يتجزَّأ من أمن دول مجلس التعاون، وأن دول المجلس لن تساوم على أمنها، ولن تسمح لأحد بأن يمسَّ أمن حدودها، أو ينال من سيادتها، مهما كلفها ذلك من تكاليف.
والوجود الإيراني على أرض اليمن يعتبر وجودًا على أراضي دول مجلس التعاون، ودول الجزيرة العربية والخليج ترفض هذا الجسم الغريب والعنصر المريب، ولكن الحركة الحوثية تجاوزت الحدود، وتحلَّلت من القيود، وذهبت بعيدًا في تهديدها، حتى وصلت بها العمالة والتبعية إلى الارتماء في أحضان إيران، وفتحت لها أجواء اليمن وحدوده البحرية واستقوت بالأجنبي لفرض واقع يُمَكِّنُها من السيطرة على اليمن، وتحويله إلى دولة تابعة لإيران، رغم ما ينطوي عليه هذا الأمر من فتنة طائفية وتداعيات إقليمية خطيرة يكون اليمن أول ضحاياها، والجوار يكتوي بنارها، والمنطقة العربية تعاني من تطاير شرارها، وتتأثر من غبارها، وواقع حال الشعب اليمني كما قال الشاعر:
كم أمة لعبت بها جُهَّالُها
فتنطست من قبل في تعذيبها
الخوف يلجئها إلى تصديقها
والعقل يحملها على تكذيبها
وتجاهل الحوثيون المبادرة الخليجية التي أجمع عليها اليمنيون، وبدأت ملامح النفوذ الإيراني تتشكل في الأفق على هيئة لجان ثورية وتنظيمات شعبية، وممارسات مستوحاة من خارج اليمن تنذر إرهاصاتها بتدمير هذا البلد والعودة به إلى عصور ظلامية بائدة، والنداء الخليجي المخلص الذي يدعوهم إلى احترام التعهدات والعودة إلى طاولة المفاوضات، لم يجد له آذانًا صاغية، وتطوَر الموقف تطوُرًا خطيرًا، ونحا منحى داميًا؛ حيث تمكنت العصابة الحوثية بدعم من المخلوع وأنصاره والقوات الموالية له من فرض مشيئتها على الشعب اليمني، وانقلبت على الحكومة الشرعية، واحتلت العاصمة، واستولت على مفاصل الدولة ومؤسساتها الأمنية والعسكرية، وتمددت الميليشيات الحوثية في معظم المحافظات اليمنية عن طريق القوات الموالية للمخلوع التي تواطأت معها، ومكَّنتها من التغلغل داخل المحافظات اليمنية والاستيلاء على المؤسسات الرسمية والإدارات الحكومية، وانتقل الطرفان من مرحلة التواطؤ إلى مرحلة المواجهة من خندق واحد والسماح للميليشيات بارتداء الزي العسكري والتخفي خلف هوية الوحدات العسكرية لخداع المواطنين والتمويه عليهم، وصار اليمن يدار بالوكالة نيابةً عن إيران وطبقًا لتوجيهاتها، والميليشيات الحوثية ما هي إلا أداة لتدميره والزج به في مستنقع الطائفية ووحل الاقتتال، مدعية ادعاءات كاذبة ورافعة شعارات خائبة، وأولئك الذين يريدون الخير والاستقرار لليمن من أبناء جلدته ويحاولون الحيلولة بينه وبين الانزلاق في دوامة الاحتراب ومتاهات المستقبل المجهول؛ ذهبت جهودهم أدراج الرياح، وأصبحوا في دائرة الاستهداف. وكما قال الشاعر:
فمطاع المقال غير سديدٍ
وسديد المقال غير مطاعٍ
والواقع أن العملية الانقلابية التي قام بها الحوثيون، وضعت الحركة الحوثية في المعترك وممارساتها على المحك، وكشفت عن نزعتها المذهبية وطبيعتها العدوانية وعقليتها المتخشبة، الأمر الذي جعلها تندفع بسرعة وقوة لتنفيذ الانقلاب بكامل أركانه، ومن ثم الانطلاق من فراغ السلطة والوضع الأمني المنفلت إلى الإمعان في قتل كل من يعارض هذه العصابة ويخالفها في الرأي، متخذة من تدمير المنازل والاعتقال التعسفي وسيلة للضغط على الخصوم والانتقام منهم، علاوة على الإخفاء القسري والاغتيالات، كما وصل بها الصلف إلى اعتقال رئيس الدولة ورئيس وأعضاء حكومته إمعانًا في سياسة الرعب التي تتَّبعها، ولم يقتصر صلفها وعبثها على داخل اليمن؛ بل وصل ذلك إلى حدود المملكة؛ حيث قامت بإجراء مناورات استفزازية على مقربة من الحدود الدولية، واستهدفت بعض النقاط الحدودية.
وفي خضمِّ الأحداث المتلاحقة استطاع رئيس الدولة تخليص نفسه من معتقل الحوثيين والوصول إلى عدن، ومنها أعلن استمرار شرعيته، واستعادة تفعيل حكومته، وعندها جُنَّ جنون الحوثيين والمخلوع، وزيَّنت لهم أنفسهم المريضة مطاردته إلى هناك، واستنفروا قواهم، واختلقوا ذرائعهم، وهاجموا قصر الرئيس في عدن بالطائرات، مما اضطره إلى مغادرة اليمن، وطلب النجدة من المملكة ودول مجلس التعاون، والجامعة العربية، والتقت المناقب القيادية مع الفضائل الإنسانية تحت مظلة الخلق الإسلامي، وطغت فضائل على فضائل أخرى، وامتزجت فيما بينها، وتفاعلت هذه الفضائل مع المبررات الشرعية والقانونية والسياسية المؤيدة لنجدة المظلوم ودفع الباغي وردع الصائل.
ونتيجة لتعثر الحلول السلمية وفشل المحاولات السياسية؛ طفح الكيل وبلغ السيل الزبى، ولم يعُد في دائرة الصبر متسع، ولا إلى غير الحزم منتجع، وهنا كان لا بد من الحزم، وانطلقت عاصفة الحزم، وقد قيل لبعض العلماء: ما الحزم؟ قال: أن لا تأمن أمرًا يُمَكَّن فيه الفُسَّاد، وقال ابن حزم: الخطأ في الحزم خير من الخطأ في التضييع، وقال الشاعر:
وازرع صوابًا، وخذ بالحزم حيطته
فلن يذمَّ لأهل الحزم تدبيرُ
وقال آخر:
وأحزم الناس مَنْ إن فرصة عرضت
لم يجعل السبب الموصول منقضبَا