عروبة المنيف
إن الإمعان في أساليبنا التربوية وطريقة تعاملنا مع أبنائنا يجعلنا نتيقن بأن هناك خللاً ما أدى إلى استحكام «الأنا» في سلوكياتهم وسيطرة الفكر المادي الاستهلاكي التفاخري في أوساطهم،حيث الرغبات «اللامتناهية»، ما يحتم علينا مراجعة تلك الأساليب لتفادي الكوارث التي سيكون الوالدان أول ضحاياها، فالتحصين ضروري من أجل مستقبل أفضل للجميع.
نمارس يومياً وبدون شعور «جريمة» بحق أطفالنا والتي ترتكب بدافع» الحب» الذي غالباً ما يؤدي إلى نتائج عكسية وغير مرضية، تلك الجريمة وهي «الدلال الزائد « حيث العطاء المبالغ فيه الذي يقود للفساد والتدمير، فالعطاء للأبناء كلما كان سخياً كان الخذلان أكبر.
تطالعنا التقارير بأن معظم من يلقون في دار العجزة ويتبرأ منهم أبناؤهم هم آباء بذلوا أنفسهم وأموالهم لأولادهم، فالتقصير من قبل الوالدين حتى لو كان بسيطاً سواء لحاجة أو لتقديم أولويات تجاه أبناء تعودوا على الترف سيلقى باللوم مباشرة على الوالدين، وهذه نتيجة منطقية لتربية زرعت فيهم أهمية التفوق المادي والإيمان بالمظاهر مقارنة بقيم ومثل وأخلاقيات أخرى لا تقدر بمال.
إن الخدر المؤقت الذي يشعر به المرء نتيجة الاستهلاك المادي والرغبة بتملك الأشياء سيجعله بعد فترة يشعر بوجود نقص ما يجتاحه وإحساس بعدم السعادة ما يجعله يحاول تعويضه باستهلاك أعلى منه وأخذ جرعة من المقتنيات تفوق الأولى وهكذا دواليك، ما يجعله مدمناً على التباهي والاستهلاك اللامحدود.
تحضرني قصة لأحد الباحثين حيث يقول: بأنه قضى وقتاً طويلاً مع « مليارديرات» كان لديهم الكثير من الممتلكات المادية ولكنهم كانوا لا يشعرون بالسعادة! وفي النهاية وجدها بعضهم وكانت لا تقدر بمال!.
يقول أحدهم الذي يملك ما لا يقل عن «خمسمائة مليون دولار» بأن حياته قد مرت بأربع مراحل، في المرحلة الأولى شعر فيها بأن السعادة تكون باقتناء الكثيرمن الأشياء فاشتري المقتنيات العديدة من قصور وسيارات ويخوت وطائرات وو..ولكن لم يشعر بالسعادة، فانتقل إلى المرحلة الثانية التي اعتقد فيها أن السعادة في شراء مقتنيات أفضل من الأولى، سيارات أفضل وطائرات أفضل وو، ولكنه أيضاً لم يشعر بالسعادة، وفي المرحلة الثالثة من حياته قرر أن يشتري» فريق كرة قدم» لعله يشعر بالسعادة ولكنه لم يصل إليها أيضاً، إلى أن بدأت المرحلة الرابعة من حياته التي أوصلته إلى» محطة السعادة» التي يبحث عنها عندما عرض عليه أحد أصدقائه بأن يأتي معه إلى البوسنة وكرواتيا لتوزيع كراسي متحركة على أطفال فقدوا أرجلهم في الحرب. يقول في إحدى زياراته إنه عندما انتهى من مساعدة أحد الأطفال في الجلوس على الكرسي المتحرك وقد كان صبياً في الحادية عشرة من عمره واستدار ليعاون طفلاً آخر سمع ذلك الطفل يقول»لا تغادر أريد أن أحفظ وجهك لأننا سنلتقي مجدداً في الجنة وأريد أن أشكرك مرة أخرى هناك»، حينها قال ذلك «الملياردير»إنها المرة الوحيدة في حياتي التي شعرت فيها «بالسعادة الخالصة التي لا تضاهيها سعادة» .
عدم إغراق أبنائنا بالمال وكبح جماح رغباتهم المادية لا يعني «البخل» بقدر ما هو سلوك تربوي يعمل على زرع ورعاية مبادئ أخلاقية تربوية تنمو بداخلهم، فالسعادة لا تقايض بالمال، إنها قناعة داخلية ينتج عنها إشباع داخلي يشعر به المرء عندما يحقق تفوقاً يشعره بأهمية الآخرين في حياته وبضرورة إشراكهم بما يملك، حيث السعادة في منتهاها والبهجة في أوجها لمن جربها واستشعر عوائدها النفسية والحياتية.
يتطلب تدريب الأبناء على سلوك العطاء والتقليل من خصلة «الأنا» لديهم «وعي والدي «عال،كأن تتفق مع أبنائك في «عيدهم» بالتبرع بمبلغ الهدية»التي لا يحتاجونها في الغالب» من أجل تعليم طفل في أفريقيا مثلاً، لمدة سنة كاملة والذي لا يتجاوز مبلغ الـ 110 دولار أمريكي.
إن الوعي التربوي واتباع الوالدين منهجا تربويا صارم في ما يخص المنهج الاستهلاكي السائد ضروري جداً من أجل بناء أجيال قادرة على بناء أمة قوية وثابتة، وفي حديث النبي صلوات الله عليه ما يؤكد منزلة المعطائيين»إنني رأيت أقواماً من أمتي على منابر من نور يمرون على الصراط كالبرق الخاطف نورهم تشخص الأبصار لا هم بالأنبياء ولا بالصديقين ولا بالشهداء، إنهم أقوام تقضى على أيديهم حوائج الناس»صدق رسول الله.