عروبة المنيف
موجة تعلو وأخرى تهوي طفرة تعلو وأخرى تهبط، سنين رخاء تأتي مزهوة وسنين شدة تأتي منكسرة.
لقد فتحنا أعيننا على رؤية برك من الخير ننهل منها، ارتوينا وأغدقنا على غيرنا، وكنا مطمئنين لمصدر الخير الذي يضخ في برك الخير.
لم يطرأ على أذهاننا أنّ ذلك المصدر الكريم من الممكن أن يخذلنا يوماً ما، فهو تحت الطلب وفي متناول اليد، سخي، معطاء، هو ملكنا ونحن أسياده.
بين الفينة والأخرى نبدأ باستشعار نقصان منسوب برك الخير، نتجاهل ذلك فربما أنه حادث عرضي، وسيعود منسوب تلك البرك في الارتفاع، يرتفع لفترة نعم ويشعرنا ببعض الأمان، ولكن يعاود الكره وينخفض المنسوب المرة تلو المرة، وفي كل مره تجتاحنا هزات وتماوجات، ونبدأ في مرحلة التوجس، نلحظ اقتراب خطر نضوب تلك البرك يوماً بعد يوم، نرتاب! نتساءل: ماذا حدث، لقد غرقنا في خيرات البرك حتى النخاع، ولكن كيف باغتتنا وبدأت تشح علينا بكرمها المعهود؟. نبدأ مرحلة التوجس ونسأل عن مصدر الينبوع الرئيسي الذي يغذي البرك، لا بد أن أحداً لعب بالمحبس الذي يضخ منه الينبوع الرئيسي!، إنها مؤامرة خسيسة من أعدائنا فهم يستمتعون برؤيتنا ونحن نصارع أقدارنا.
ننطلق في بحثنا عن مصادر ينابيع أخرى لتغذيه البرك التي بدأت في التقهقر فهي في وضع حرج ومنسوبها ضعيف، فلن تستطيع ري حقولنا ومزارعنا وبساتيننا ومراعينا، فلا نجد! يا إلهي! ما العمل؟، هل نطرق أبواب السقاة الآنيين من أبناء الحي لتغذية البرك التي تتقهقر من نقص في منسوبها؟ لقد نهلوا هم أيضاً من خيراتها واستمتعوا بعطاءاتها، فتلك البرك لها فضل كبير عليهم، ولكن ماذا يستطيع أولئك السقاة أن يضخوا في تلك البرك، فإمكانياتهم محدودة مقارنه بقوة هدر الينبوع الأصلي الذي كان يصب في برك الخير وبالاحتياجات التي بنيت على أساس قوة هدر الينبوع وسرعة تدفقه.
ينتابنا شعور بالإحباط خوفاً من توقف الحياة، فذلك الينبوع هو مصدرنا الرئيس للعيش والسقيا، نرتاب، نأخذ نفساً عميقاً ونفكر، ما الذي حدث؟ لقد نهلنا من خيرات تلك البرك، ارتوينا، سقينا حقولنا ومزارعنا، حصدنا محاصيلنا، وشبعنا حد التخمة!، ومن منطلق إنساني أيضاً بذلنا الخير والعطاءات الوفيرة ومددنا خطوط أنابيب تضخ من خيرات تلك البرك للمحتاجين والمنكوبين في الداخل والخارج، لم نبخل يوماً على من مد يده إلينا طالباً العون، لقد كنا للخير دوماً سبّاقين.
أصوات كثيرة كانت تصل إلى مسامعنا من أبناء الحي ومن خارجه تخفت وقت الرخاء وتعلو وقت الشدة، تلك الأصوات تحمل هموماً مستقبلية تملكها الإعياء من ثقل حمولتها، فلطالما نادت باستغلال مصدر الينبوع الأصلي الهادر بشكل أكثر مهنيه واحترافاً وبواسطة ابتكار ينابيع فرعيه من خيرات الينبوع الأصلي، بحيث يكون لتلك الينابيع الفرعية ألوان وأشكال ورائحة مختلفة تضخ في ذات البرك الخيرة ولكن لا تنضب، لا تؤرق، لا تخذل، لا تحبط، خيراتها تتدفق على مدار العام فلا تتلاعب بأعصابنا، أو بالأصح لن تخوننا يوماً ما.
إن جاء يوم وشحت علينا الطبيعة بكرمها ونضب الينبوع من التدفق، فسنجد الينابيع البديلة تقوم بالواجب وربما أكثر، فهي من جدّنا وكفاحنا وتعبنا، سنبذل الغالي والنفيس من أجل صيانتها والحفاظ عليها، فبعد أن كانت الطبيعة كريمة معنا وفجّرت ذلك الينبوع العظيم، سنكون نحن أكثر كرماً مع أولادنا وأحفادنا وأجيال المستقبل في تفجير ينابيع من صنع أيدينا ونتاج كفاحنا وفكرنا، فهي بذلك لن تخذلهم ونكون قد أدينا الأمانة في تأمين مستقبل الأجيال القادمة، حتى لا يلومنا أولادنا ويتهمونا بالأنانية والاستهتار يوماً ما.