د.محمد الشويعر
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
الرقابة باختصار هي: عملية منتظمة تنفذ وتحقق هدفًا معينًا، ومن ضمن الرقابة، رقابة تعطي طابعين في المتابعة والتقويم: ذاتي بإحساس النفس، ورقابي مدفوع بقوة النظام.
فإن الذاتي: يحرص عليه التربويون والإداريون، لإشعار أهل هذين التخصصين بأن القناعة العلمية، والارتباط المعرفي، هما الدافع لإجادة العمل، ومحاسبة النفس، واتخاذ ميزان تقاس به الأعمال، وتقوّم به النتائج.
أما الرقابي المدفوع بقوة النظام: فهو سلطة قوية، يستعملها الرقابيون بأساليبها الرادعة، مع المقصّرين في العمل، المتراخين في متابعة الواجبات الملقاة عليهم.
ومن هذا الأمر المحسوس في حياة الناس، نقارن الفطرة الشرعية في مكافحة الجريمة، فالطريقة الوقائية: هي منهج يحرص عليه الإسلام في تحصين النفس، وتزويدها بالطاقة الإيمانية، المكافحة للجريمة قبل وقوعها، من حيث إدراك كنهها، وتجسيم ضررها، ومداخل وطرق الوقاية منها، ويتعاون عليها ثلاث فئات: الفرد والأسرة، ثم المجتمع.. ولكل من هذه الفئات الثلاث مداخل للمعرفة، ومسارب لتمكين الهدف في معرفة الجريمة، ورسم الطريق الموصل إلى مكافحتها، وحصرها في نطاق الكراهية والتنفير.
رقابة الفرد:
أما رقابة الفرد على نفسه أولاً، وتوجيهه لغيره ثانيًا، فتتمّ بتوسيع المدارك، وزيادة التمكن في أخذ المعرفة من مصادرها الصحيحة الثابتة، وغرس الفضيلة، ومقاومة الرذيلة، كما يستفاد من هذا النص الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}. سورة المائدة آية 105. روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إذا سمعت يا أيها الذين آمنوا، فأصغ لها سمعك، فهي إما أن تأمرك بخير تتبعه، أو تحذرك من شر فتجتنبه.
قال ابن كثير في تفسيره: يقول تعالى: آمراً عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم، ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم، ومخبراً لهم أنه من أصلح أمره، لا يضره فساد من فسد من الناس، سواء كان قريبًا منه أو بعيدًا عنه.
قال العوفي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: يقول تعالى: إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته به من الحلال، ونهيته عنه من الحرام، فلا يضره من ضل بعده، إذا عمل بما أمرته به.
وعندما سئل أبو ثعلبة الخشني عن دلالة هذه الآية قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحًا مطاعًا، وهوى متبعًا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام..)) الحديث، رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. تفسير ابن كثير 2: 109.
رقابة الأسرة:
والأسرة عندما يدرك أفرادها، ما يجب عليهم فهمه من نصوص شرعهم، ودلالات دينهم، ويحرصون على ذلك عملاً، فإن نتيجة ذلك الالتزام بالأخلاق، ومراقبة الأعمال؛ لتزنها من منطلق الفهم الصحيح، حتى توجه الأبناء منذ حداثة أعمارهم التوجيه السليم، وتغرس في نفوسهم حب الفضيلة لفضلها، وعمق أثرها، وكراهية الرذيلة لسوئها، وآثار نتائجها؛ لأن الرذيلة يتمثل فيها شبح الجريمة، التي يحسن بالأسرة تجسيمها لدى الناشئة، وإيصاد الطرق المؤدية إليها؛ ليكبر هذا الإحساس معهم، فيرونها شبحًا مخيفًا، وعملاً رذيلاً، تكبر أحاسيسهم حياله مع الأيام، حتى إذا كبروا، وصاروا في موطن المسئولية، وعمق الفهم، أدركوا بالدليل الشرعي سر ما رسخ في قلوبهم، ودور ما أنشئوا عليه من أعمال وأفكار، حيث أدرك ذلك المفهوم التربوي الشاعر العربي في قوله:
وينشأ ناشئ الفتيان منا
على ما كان عوده أبوه
وأسوة المسلمين في ذلك منهج الصحابة، وفهم التابعين في حسن توجيههم لأبنائهم، وتلقينهم الفضيلة طبعًا وخلقًا، وتعويدهم الأعمال الحميدة ترويضاً ومتابعة، حيث تابعوا التطبيق مع أقرب الناس إليهم، ونشؤوا محبيّن لكل عمل مستحسن، آلفين كل منهج سليم، سائرين على الفطرة السليمة، التي هي تعاليم الإسلام الصحيحة؛ لأن كل مولود يولد على الفطرة، والإسلام وتشريعاته هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فالأسرة المسلمة، في كل عصر ومصر، عندما يهتم أربابها بأبنائهم: تربية وحسن خلق، وأمراً بمعروف، وإنكارًا للمنكر، وتحذيرًا من الصغائر، التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إياكم ومحقرّات الذنوب)) أي: ما تحتقره النفس ويصغر في العين، فإن هذا من أسباب توفّر البيئة الصالحة، التي تبغض الجريمة، وتنكر الجنوح إليها؛ لأن صلاح الأحداث، وتعظيمهم شرائع الله، والوقوف عند حدوده، دافعه الزاجر الإيماني، والتربية السليمة التي حرصت الأسرة على تمكينه في جوانب البيت، ضمن التربية الأولية التي يلقنها الآباء والأمهات لأبنائهم، فالكبير يمتثل ويوجه، ويضرب النموذج الصالح بالقدوة والالتزام، أما الصغار فيبين لهم أن ذلك العلم ما هو إلا استجابة لشرع الله، الذي جاء به الإسلام تربية وتوجيهًا وتعليمًا وتطبيقًا.
فالصغير عندما يتعوّد ذلك عملاً، وتنطبع به أخلاقه سلوكًا، فإن الأمر سيعظم في قلبه، والمصدر الذي جاء منه وهو كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي استجاب من أجلهما، سيكون له مكانة راسخة في أعماقه؛ لأن هذا من تعظيم حرمات الله، كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ}. سورة الحج آية 30. وقوله سبحانه: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}. سورة الحج آية 32. إنّ الأسرة التي تحرص على غرس الروح الإيمانية في قلوب أبنائها، منذ تفتح براعمهم، فإنّما تحصّنهم لمجابهة الحياة، والاستعداد لإدراك المخاطر؛ لأن ترسيخ الإيمان بالله وبكتبه وملائكته وبرسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، يعطي الأبناء سلاحًا قويًا يدفعهم للعمل، وينمي عندهم بغض الشر، وإدراك خطره، ويحببّ إليهم الخير، ويرغبهم في البحث عن مداخله، والاستئناس بأهله؛ لأن من شبّ على شيء شاب عليه، وبذلك يسلم الأحداث - بتوفيق من الله - من الجنوح في صغرهم، ومن ثم الابتعاد عن الجريمة في كبرهم؛ لأنها لم تجد في قلوبهم بابًا مفتوحًا، ولا ارتياحًا يدفعها للاستقرار.
ومعلوم أن من يركب مخاطر اليمِّ، إذا لم يكن قادرًا على السباحة، فإنه يعرض حياته للموت، ونفسه للخطر، بل أبسط ما يقال عنه: إنه قد ألقى بنفسه إلى التهلكة؛ لأنه لم يستعد من قبل، بما يعينه على مصارعة الأخطار، والقدرة على توقي أضرارها.
رقابة المجتمع:
ثم يتبع ذلك رقابة أوسع، ونظرة أشمل، هي عين المجتمع الفاحصة، وانتقاداته لكل أمر خارج عن المألوف في البيئة الإسلامية، حيث إن البيئة الإسلامية يجب أن لا يُؤْلَف فيها، إلا ما يتمشى مع منهج دين الإسلام، كما جاء في الحديث: ((ما رآه المؤمنون حسنًا فهو حسن، وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو قبيح)). روي موقوفاً على ابن مسعود. فإيمانهم القوي يردعهم عن تغيير النظرة للأمور الحسنة، أو القبيحة، فالحسن عندهم ما أباحه شرع الله، والقبيح في نظرهم ما حذر منه الشرع، وحرمته تعاليم الإسلام.
وأهمية الجار والمحافظة عليه سمعة ونصحًا من أساسيات دين الإسلام، حيث وردت أحاديث تدل على أن الجار يتعلق بجاره يوم القيامة، ليحاجه أمام خالقه جل وعلا؛ لأنه رآه يعمل المنكر فلم ينهه، واستحق بنو إسرائيل اللعن في كتاب الله على ألسنة أنبيائهم لتركهم التناصح والأمر بالمعروف، كما قال جل وعلا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}. سورة المائدة الآيتان 78-79. فحق عليهم بعدم التناصح، وراحة النفس بالجريمة التي يعملها الآخرون، أن وجب عليهم لعن الله، وهو الطرد من رحمته جل وعلا.
والعصيان والاعتداء جريمة؛ لأنّ في ذلك مجاوزة لحدود الله التي حد لعباده، وأعظم الجرائم عصيان الله في أمره، والاستكبار على شرعه، كما فعل إبليس - لعنه الله - حيث أخرجه ذلك من رحمة الله، واستحق مقته وغضبه إلى الأبد، فأعظم بها من خسارة، قال ابن كثير في تفسيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم)).
قال يزيد، وأحسبه قال: ((في أسواقهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم)) {ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} سورة البقرة 61 ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا فجلس فقال: ((لا والذي نفسي بيده، حتى تأطروهم على الحق أطراً)) وفي رواية ابن مسعود رضي الله عنه: ((كلا والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً أو تقصرنه على الحق قصراً)). تفسير ابن كثير 2: 83.