د.فوزية أبو خالد
جاءني السؤال التالي ضمن مجموعة من الأسئلة لإحدى المطبوعات الخليجية التحليلية الرصينة، فاضطررت لوجوده بين عديد من أسئلة أخرى إلى اختزال التحليل وتقديمه في إجابة مختصرة إلا أنني بعد أن انتهيت من التحقيق شعرت أنه لا يزال في نفسي شيء من حتى،
فعملت لاحقًا على تقديم معالجة أوفى ورأيت أن أحولها من هواجس ذاتية في أزمة ذات طبيعية وجودية إلى محاولة للتفكير بصوت عالٍ كنوع من التفكير المشترك بما قد يصلني من تعليقات قراء قد يكونون مثلي يعيشون هاجس الأسئلة.
السؤال:
تنشغل كتاباتك بتحليل الواقع الدامي والضبابي الذي تعيشه المنطقة العربية وقد كتبت في «تويتر» «بأن جريمة الكويت مثل الجرائم بالسعودية جرائم تبتزنا بالطائفية وخطاب التشدد الظلامي لتعميم الخراب؟» وذلك على خلفية التفجيرات بمسجدين في القديح والدمام في السعودية ومسجد الإمام الصادق في الكويت، الملاحظة الأليمة أن تلك الجرائم ارتكبت بأيدي ثلاثة من الشباب السعودي.
فكيف تنظرين إلى استقطاب «داعش» لعدد من الشباب السعودي وهل شباب المملكة الأكثر استهدافًا من قبل هذا التنظيم الإرهابي، وأين الخلل في السعودية، الذي يجعل الشباب لقمة سائغة لمثل هذا الاستقطاب؟
إجابة جاهزة..
قد يقال في الإجابة مناهج التعليم المتشددة، إرث التنظير والتخريج الفقهي التعصبي، الأحقاد التاريخية ببعدها الديني أو العرقي أو القومي، غلو المشايخ، وقد يقال: انفلات الإنترنت، عدم القطيعة المعرفية مع التباسات التاريخ السياسي والديني. إلا أننا في بغتة الانهيارات المريعة وأنهار الدم التي لم تعد ترتكب ضد أوطاننا من عدو خارجي فقط، بل صار من يتخذنا عدوًا من «كانوا منا وفينا»، نذهل عن نعمة العقل ونهرع لإجابات جاهزة وقراءات مشجبية لا تشفي الغليل ولا تحل المعضلة. وكأن ليس علينا أن نتحلى ببصيرة وصبر لنفحص التربة ونفهم الأسباب. على أن الكشف عن جدلية علاقة حاضرنا بمستقبلنا بماضينا لفهم محاولة ما ننجر إليه من خراب بأيدينا وأيدي سوانا معًا، يتطلب رؤية موضوعية دقيقة ونقدًا ذاتيًا صارمًا. ولن يتسنى لنا ذلك بغير شجاعة الاعتراف بمسؤوليتنا دولة ومجتمعًا عمّا يحدث لأوطاننا وما يتورط به أو يورطنا فيه بعض شبابنا. وهذه مهمة ليس لفرد أو نخبة احتكار تهمتها ولكن لكل منا الحق ألا يفرط في شرف المحاولة.
محاولة لفهم السؤال
من الواضح أن المنطقة تقف أمام تحدٍ سياسي وعسكري كبير يتمثل في «حالة هي مزيج من انكساراتنا الذاتية وتعالقنا الماضوي وعدواتنا التاريخية وأطماع الآخرين بنا مع الكثير من انعدام الخيال الخلاق وغير القليل من التدخل الاستخباراتي المتعدد والفقر المدقع إلى رؤية نقدية والخوف المرضي من الإصلاح السياسي الجاد ومن التعدد وتداول السلطة السلمي». وما يرفع من معدل هذا التحدي لمستوى الخطر الأمني على السلم الأهلي وعلى المصير الوطني أن تلك الحالة قد أنتجت عدوًا يعول على استخدام أكثر القوى الاجتماعية حيوية وهم الشباب، وأشد العواطف قابلية للاشتعال وهي العاطفة الدينية. وذلك بالعمل على تلوين أجندته السياسية بألوان مذهبية تقوم على تجيش العاطفة الدينية وعلى إهانة العقل وعلى استغلال التناقضات السياسية والاجتماعية داخل البنى السياسية والاجتماعية التي يريد تفتيتها لبلوغ ما يمكن أن نسميه «مرحلة الأنقاض». فعلى غير الأنقاض لا يمكن للأعداء على اختلاف هوياتهم وتقارب أهدافهم وتناقضاتهم السياسية إعادة ترسيم الجغرافي وتغيير المسار التاريخي وتحويل أي بصيص بحلم الحرية والكرامة إلى كوابيس في ظل الظلام الدامس لأعتى أشكال الاستبداد المتمثلة ليس فقط في الاستفراد بالسلطة بل والاستفراد بالفكر والدين وبأقدار الحياة والموت.
اختبار السؤال
فما «داعش» من دون الشباب، شباب التشات، وشباب السيبر وشباب الألعاب الإلكترونية العدوانية وشباب الاستراحات المغلقة وشباب السخط المكبوت وشباب التهميش السياسي وشباب الاغتراب الوطني وشباب استفزاز قوى الهيمنة الخارجية وشباب ذل التطبيع مع العدو الإسرائيلي وشباب الارتزاق وشباب الطاعة العمياء وشباب البطالة وشباب البحث عن بطولة أو قدوة وشباب خيبة الربيع العربي وشباب الفراغ واللا قضية وشباب التعصب القبلي والمناطقي والديني وشباب التأجيج الطائفي وشباب التمايز الطبقي وشباب معاداة العقل وشباب الأخيلة الغيبية وفشل الخيال الاجتماعي والسياسي الخلاق. وهذه العينة من الشباب المختطف كرهًا أو رغبة وإن جاءت متوالية جرائم المساجد في السعودية والكويت الأخيرة بأيدٍ سعودية منهم فهم متناثرون على اتساع الخريطة الدولية لمختلف الدول ومن مختلف القارات. وهم إِذ يختلفون في التكوين والأهداف والوعاء المعرفي عن تلك الصيحات الشبابية العريضة المتمردة على شراسة الرأسمالية التي راجت في أوروبا وأمريكا الشمالية نهاية الستينيات والسبعينيات كصيحة الهيبيز، فإنهم يتشابهون في تشرذمهم واجتثاثهم من سياق الرشد العام مع أمثلة متطرفة للتعصب السياسي والعرقي والديني مما لا ينشط تاريخيًا إلا في مراحل الاستبداد والظلام كالفاشية والنازية. على أن منسوب نصيب الشباب المختطف من تعقيدات تلك الأوضاع التي دفعت بهم لأحضان «داعش» يختلف من بلد لآخر بل ومن شاب لآخر، بما يجعل لكل مجتمع حكايته وخصوصًا إن تقاطعت مع مجتمعات أخرى في الأسباب والدوافع وفي الواقع السياسي والاجتماعي وفي حاضنة الفكر والسائد الثقافي والسياق التاريخي الذي هيأ لوجود ميل أو استعداد لتقبل «داعش» أو للتحول إلى حطب في حرائقها.
سؤال محرج ولكنه من نوع ضرورة وضع الإصبع على الجرح.
ونجد أن سؤال شريحة الشباب يشكل في الأوضاع العادية شكلاً من أشكال القلق المشروع الذي لا بد أن يكون هاجس كل من الدولة والمجتمع مع أعلى اعتبار أن الشباب واحد من أهم القوى الاجتماعية للأوطان إن أرادت تقدمًا وإن أرادت تغييرًا لما قد تعاني منه من التخلف وإعاقات النمو الفكري والمادي، فكيف تكون قسوة السؤال في حالة خطر بواح يعمل في العلن والخفاء على تحويل شريحة الشباب إلى قنبلة موقوتة لإثارة الصراعات والفتن بين مختلف القوى الاجتماعية لتدمير الوطن في علاقته بذاته وفي علاقته بالجوار؟!
في رأيي أنه من غير المجدي تبادل الاتهامات المبطنة أو السافرة بين الدولة والمجتمع أو بين التيارات السياسية بعضها بعضًا حيث كل فئة تنحي باللائمة على الأخرى في مسؤولية تخطف ذلك الضوء الذي اسمه الشباب، خاصة بعد ذهابه ليصبح حريقًا أو وقودًا قاتلاً أو عتمة تعمنا جميعًا بيد غيرنا وقد كان بأيدينا فلم نحسن الاستضاءة به وما زلنا نسيء الاستنارة به مع استمرار عدم القدرة على إيجاد أرضية مشتركة بين الدولة وبين المجتمع وبين الشباب.
يتبع الأسبوع القادم.