د.فوزية أبو خالد
وصلني عبر وسائل الاتصال المتعددة، بما فيها الإيميل والجوال، عدد من الأسئلة لصحف ومواقع وفضائيات عربية وعالمية، تتعلق بموضوع الاتفاق النووي الإيراني الأمريكي الغربي. ومعظم تلك الأسئلة تدور حول محورين أساسين:
المحور الأول يتساءل لماذا يساور المنطقة القلق وليس الاطمئنان كما يفترض من هذا الاتفاق الذي يكف يد إيران عن تطوير مقدرة نووية قاتلة؟ أما المحور الثاني فيبحث في سؤال كيف يتعامل الخليج مع واقع ما بعد توقيع الاتفاق وقرب دخوله مرحلة التنفيذ؟ وفي محاولة الإجابة عن السؤالين تكونت عندي بعض الإجابات التي نشرت أو بثت مبعثرة هنا وهناك، فأردت أن أضعها في منظومة مترابطة، وأشرككم فيها عبر هذا المقال.
1 - ممكنات الاتفاق النووي
أحد الاحتمالات التي قد تنجم عن هذا الاتفاق هو ذلك الاحتمال المبالغ بالتفاؤل، الذي بشر به الرئيس الأمريكي باراك أوباما, بل حاول استخدامه لتسويق الاتفاق على الكونجرس الأمريكي للمصادقة عليه. كما فعل المسؤولون الأوروبيون الشيء نفسه بمحاولة تسويقه على اتحاد البرلمان الأوروبي. وهو ذلك الاحتمال القائل بأن الاتفاق سيضع على عاتق إيران مسؤولية تاريخية أمام المجتمع الدولي؛ لتتصرف بعقلانية، ولتنخرط في المشاركة الإقليمية والعالمية لمحاربة الإرهاب المضاد للمصالح الأمريكية والغربية على وجه التحديد. فكان في الحسبان الأمريكي والأوروبي - على ما يبدو - أن يكون ثمن إبعاد إيران - وإن لمدة خمسة عشر عاماً (مدة صلاحية الاتفاق) - عن الانضمام إلى النادي النووي، (الذي تمتلك بلدانه قنابل نووية لا تبقي ولا تذر), هو قبولها اليوم في نادي المجتمع الدولي. وهذا الاحتمال يعني أن تتحول إيران على غير ما هي عليه الآن في سوريا واليمن ولبنان والعراق من قوة بطش ميليشية وتحريض طائفي، تحاول فرض سيطرتها الإقليمية على المنطقة بالقوة، إلى دولة سلمية مسؤولة أمام المجتمع الدولي، وعلى الأخص أمريكا وأوروبا, بحيث تسهم مع ما تبقى من دول المنطقة العربية ومع تركيا ودول الخليج في استقرار المنطقة الذي يعني لأمريكا وأوروبا سلامة منابع الطاقة وتجفيف منطقة «الشرق الأوسط» وامتداداتها من منابع الإرهاب المعادي للمصالح الأمريكية والأوروبية وتفكيك قدرة الإرهاب على تصديره لهما أو التهديد بذلك كما حدث في الهجوم الذي استهدف المعقل الأمريكي نفسه في 11/ سبتمبر. الاحتمال الثاني وهو احتمال يرتبط بسيناريو التفاؤل بالعقلانية الإيرانية وثوبة إيران إلى رشد سياسي متوازن بعد توقيع الاتفاق النووي معها على غرار الاحتمال الأول، وهو ذلك الاحتمال القائل بأن رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران نتيجة للاتفاق النووي معها سيرفع عن كاهلها عبء التقشف المالي الذي فرضته على شعبها لسنوات طويلة، وسينعش حركة الاستثمار الأجنبي فيها؛ ما يعزز بروز طبقة اجتماعية إيرانية ترتبط مصالحها الاقتصادية والقيمية بالانفتاح العالمي مالياً وفكرياً ونمطاً سلوكياً، وبالخروج على الانغلاق الديني والطائفي الذي فرضته الأجنحة المتشددة أو ما يسمى بصقور القيادة الخامائنية على إيران منذ تحول الثورة الإيرانية إلى دولة إسلامية طائفية متحجرة ومعادية لمحيطها وللأنظمة السياسية المغايرة لتريبتها الأثوقراطية. وسيناريو هذا الاحتمال لا يراهن على القوى المحافظة في إيران لإخراج البلاد من عزلتها التاريخية المذهبية الممتدة الآن لما يقارب ثلث قرن (1979) بل يراهن على قوى إيران الاجتماعية والسياسية بمختلف خلفياتها الطبقية والأيديولوجية التي ظلت مقموعة أو مستبعدة أو في أحسن الأحول منسحبة طوال ذلك الزمان. وهذا يعني التبشير باحتمال تحول ديمقراطي في الداخل الإيراني نفسه. وقد رأينا قراءات متفائلة تبشر بهذا الاحتمال من قِبل عدد من الكتاب العرب، ومنهم د. توفيق السيف، وآخرون, الذين يعطي رأيهم مزيداً من الثقل أن انتماءهم لهذا المذهب أو ذاك لم يحجب عنهم رؤية المشتهى الخلاصي لإيران والمنطقة من رقبة الانعزال الطائفي أياً كانت صبغته المذهبية بالتحول الديمقراطي، وبتعزيز الدولة المدنية وعلاقة المواطنة المدنية بين الدولة والمجتمع. وهذا الاحتمال لا يعتمد نجاحه - إن صح - على إيران وحدها بل على جوارها الإقليمي عامة، وجوارها الخليجي على وجه التحديد. طبعاً هناك احتمالات سوداوية بأن تستكبر إيران وتأخذها عزة الاتفاق النووي بإثم التأليب الطائفي والاستقواء الميليشي فترفع وتيرة صراعها في محاولة انتزاع التسليم لها بدور قيادي إقليمي بالمنطقة، إلا أن مرور أو إفشال هذا الاحتمال - إن صح لا قدر الله - لن يعتمد على قوة إيران الرسمية فقط بل يعتمد على قوى المعارضة الإيرانية والأصوات العقلانية فيها، كما يعتمد - وهذا عنصر لا يستهان به - على طبيعة الموقف الدولي الأمريكي الغربي تحديداً للاتفاق، وهل يراد به الاستقواء الإيراني في المنطقة أو التوازن، وخصوصاً أن هناك دولة العدو الإسرائيلي المتربصة التي إذا كانت قد بنت دولتها الاستعمارية الاستيطانية على عنصر احتلال فلسطين والمحو العربي فإنها لن تسمح لقوة إقليمية أياً كانت بتقاسم المغانم معها أو منازعتها على حلفها المقدس مع قوى الهيمنة الأمريكية والغربية. أما الطرف الذي يعول عليه في مقاومة ذلك الاحتمال السوداوي بأن يكون الاتفاق النووي فرصة لمد ظلال القيادة الإيرانية الانعزالية على المنطقة فهو الطرف العربي والطرف الخليجي خصوصاً. فنحن أصحاب مصلحة وأصحاب حق لأن يكون جوارنا الإيراني معنا لا علينا، وأن نتآلف ونتحالف مع القوى الإيرانية المستنيرة الجانحة للسلم، وأن نكون أصحاب منعة بحيث يحسب حسابنا العدو والصديق معاً.
2 - كيف يتعامل الخليج العربي مع الاتفاق..؟!
بطبيعة الحال، إن دول الخليج أذكى من أن تدفن رأسها في الرمل فتفترض أن لا عين رأت ولا قلب تألم من جراء الاتفاق. فالاتفاق كما قال الرئيس الأمريكي في مقابلة ساخرة مع إحدى القنوات الأمريكية لا يكون لاستمالة الأصدقاء، ولكن لشأف شوكة الأعداء. وكان الاتفاق يمكن أن يكون مسعى خليجياً لخلق بيئة نقية من وباء التسلح النووي ومن رعب السيطرة، ولحشر التحيز الأمريكي الغربي لنووية إسرائيل، إلا أن الطريقة التي تتصرف بها إيران وهي بعد تحت العقوبات الاقتصادية الدولية في محاولة عمل اختراقات انقسامية طائفية حادة في المنطقة العربية والخليج هي التي تبعث القلق الخليجي، وتثير الشوك. والقلق الخليجي يتلخص في سؤال بسيط، هو: هل يمكن الوثوق بتصرفات إيرانية سياسية عقلانية ما بعد الاتفاق, وما بعد انعتاق أموالها المجمدة وقبول المجتمع الدولي بها وإخراجها من عنق زجاجة تبعات تدخلها المباشر في الشأن العربي وترك تلك المصائر مفتوحة لتدافع قوى الصراع الإقليمي بأطرافه الداخلية سياسياً ومذهبياً، وأطرافه الخارجية، بما فيها الصين وروسيا، وبطبيعة الحال أمريكا والغرب الأوروبي؟ فحتى الاجتماع الأمريكي الخليجي لشهر أيار الماضي الذي عُقد من باب التطمين الخليجي لم يعطِ فيه الرئيس الأمريكي كلمة شرف لأصدقائه الخليجيين بتضمين الاتفاق بنداً يؤدي لكف يد إيران الميليشية عن أذى المنطقة بحزب الله والحوثيين وغيرهم في العراق وسوريا ولبنان واليمن, بل إن كل ما قدمه لم يعدُ تطمينات هلامية للدفاع عن الخليج، تتسم بالغموض والمناورة في حالة تعرضه لهجوم عسكري مباشر. فماذا عسى الخليجيون بعد أن أصبح الاتفاق النووي حقيقة واقعة، ولم يعد بينه وبين الدخول إلى حيز التنفيذ إلا أقل من تسعين يوماً، فاعلون؟
طبعاً، جرى ترحيب عربي وخليجي حذر مشبع بالغصات من معظم دول العالم العربي ودول الخليج إلا أن ذلك لا يعني أن يكون هذا الموقف الدبلوماسي هو نهاية المطاف. فالواقع أن أحداً لا يدري بعد ما هي دهاليز هذا الاتفاق ولا مطباته الهوائية ولا ومغباته القريبة أو البعيدة على إعادة تشكيل خارطة الشرق الأوسط التي تعمل فيها «الفوضى الهدامة» على قدم وساق ما يقارب اليوم خمسة عشر عاماً منذ صبيحة الثاني عشر من سبتمبر 2001م. وعلى فرض أن ليس في الصدر إلا ما أظهرته الصورة، وأن هذا الاتفاق النووي لا يخبئ أي مفاجآت أو «مفاجعات»، فإن مواجهة الأمر تقتضي العمل على وضع خطة عربية خليجية استراتيجية لمقاومة أي مما يمكن أن يسمى في التشخيص الطبي بالأضرار الجانبية المحتمل لمثل هذا الاتفاق الإيراني الأمريكي الغربي. وهي قد لا تكون مجرد أعراض جانبية كما يتضح من سياسة إيران العدوانية السافرة منذ ولوغها في دم العراق وسوريا بالوكالة. ومثل هذه المواجهة تتطلب إعادة النظر في أمور عدة، من أولها المراجعة النقدية الذاتية للأوضاع الخليجية الداخلية، وتعزيز الموقف الوطني بمشاركة والتفاف مختلف قوى الطيف الاجتماعي والسياسي في علاقة الدولة بالمجتمع. ولربما يتذكر الخليجيون ما قاله أوباما إبان الإعداد لمؤتمر كامب ديفيد لاستضافة القيادة الخليجية إثر تحفظهم على توقيع الاتفاق النووي الأمريكي الغربي مع إيران؛ إذ قال في مقابلة له مع النيويورك تايمز: «إن على العرب والخليجيين أن يقلقوا من تهديد أوضاعهم الداخلية لأنظمتهم أكثر من قلقهم من تهديدات خارجية من إيران أو سواها».
وخلاصة الدرس الذي لا نحتاج أوباما ليعيده على مسامعنا أن مسألة الإصلاح الداخلي والشراكة السياسية خليجياً مسألة مفصلية في أي استراتيجية تريد مقاومة أي قوى خارجية تهدد استقرار المنطقة أو تلوح به.
الأمر الثاني هو مراجعة داخلية أيضاً، تتخذ موقفاً نقدياً ذاتياً صارماً من تصاعد بؤر التشدد وتوسعها، مثل واقع داعش اليوم والقاعدة بالأمس، وتصحيح أي مسارات فكرية أو مالية أو سواها، تجعل له طريقاً للعلاقة بنا أو بشبابنا. فمن المفارقات المضحكة المبكية أن أمريكا ترى في إيران حليفاً لها في مقاتلة داعش مع أن الميليشيات الطائفية الإيرانية بالوكالة في لبنان وسوريا واليمن لا تقل تقتيلاً وفتكاً باستقرار المنطقة وغيلة شعوبها عن داعش؛ فكل منهما يتنافس على تدمير المنطقة وتفتيتها بآلة التعصب المذهبي والفتك العسكري.
الأمر الثالث هو الموقف الخليجي المتعاون بجدارة واقتدار مع أمريكا والغرب في مجابهة أي جبهات نشطة وأي خلايا نائمة للإرهاب منذ اللحظات الأولى لحادثة سبتمبر إلى يومنا هذا. وهذا أمر لا يجب أن يجري العمل عليه بالغالي والنفيس دون ثمن ودون مقابل في انتزاع بعض استحقاقاتنا في تعامل تلك القوى الدولية المهيمنة معنا، فلا تعتبر أن مصالحنا في السلم الأخير لمفاوضاتها وعلاقاتها الإقليمية معنا ومع أعدائنا على حد سواء.
الأمر الرابع هو امتلاك مشروع خليجي وطني بتحالفات عربية وإقليمية ودولية متنوعة مع تحجيم العدو الإسرائيلي أو إعادته إلى حجمه الطبيعي في علاقته التي لم تنفك يوماً عن العدائية السافرة للمنطقة والعدوان اليومي على الشعب الفلسطيني. وعلى أن يكون الإنتاج الوطني والاستثمار المنتج للنفط وإقامة مفاعلات نووية لأغراض سلمية جزءاً عضوياً لمثل هذا المشروع الوطني السعودي والخليجي المنشود لمقاومة كل ما يتهدد وكل من يهدد سلام المنطقة واستقرارها واستقلالها. وأعتقد أن أحلام اليقظة أقرب إلى الأمل من كوابيس اليأس.