ياسر حجازي
(أ)
يتأزّم الوعي عند الإنسان العربي في مواجهة واقع لا يخضع لأدواته التفكيريّة، وهذا الوعي (العاجي) نشأ على تربيةٍ في التفكير لا تتلاءم مع إدارة الواقع والتكييف معه كطبيعة إنسانيّة غايتها الاستمرار والتطوّر، لأنّ التكييف لا يعني الاستسلام النهائي للواقع بل مواجهته عبر أدواتٍ واقعيّة قادرة على تطويره ومعالجته، مما يتوافق مع الاستمرار والتطوّر، بينما معاندة الواقع ورفضه والدخول معه في مواجهة وجوديّة بغير موضوعيّة تنتج معادلة إقصائيّة هي مخرجات إدارة الواقع العربي؛ ولأنّ الواقع صعب أن يُهزم بمواجهته بأدوات مبعوثة من الظلام التاريخيّ فإنّ الواقع يبقى سائراً وصامداً لا يلتفت، ويبقى ذاك الوعي يتعرّض للنكسات تلو الأخرى. وأنت أينما تلتفت ترى دُعاة الماضي يتساءلون: (لماذا نتخلّف؟ لماذا نتراجع؟ بصياغات عدّة ومدلول واحد؟) وتكاد إجاباتهم من المغرب إلى المشرق على النتائج نفسها: (الابتعاد عن الدين، الحل في الدين، المؤامرة الغربيّة، أو بدعة تجديد الدين التي بشّر بها دعاة النهضة أو ما يسمّى بالإصلاح الديني التي آت بها دُعاة العلمانيّة المشوّهة التوافقيّة) ولا شيء على حاله يبقى رغم ممارساتهم السياسيّة الدينيّة، واشتراك اليمين السياسي الديني مرّات عدّة في معادلات توازن مع أنظمة الحكم العربي، بصورة أو أخرى، بوجود ممثّلين أو بتفعيل تصوّراتهم ومقولاتهم، وفي كلّ مرحلة يزداد الوضع تعقيداً وارتداداً حضاريّاً أسوأ ممّا سبقها، لطالما المتاجرين بالدين وأتباعهم يسوّقون أنّ الحلّ بالعودة إلى الدين؛ ومنطق كهذا يتضمّن افتراضا: أنّ الدولة بناسها وأنظمتها وسلطاتها بعيدة عن الدين أو هي ضدّ الدين، وهو ما يعجز أيٌّ من هؤلاء الدعاة على إثباته في جميع الدول العربيّة، فالإشكال أنّ هذه الدعوة –تحديداً- تقتضي ابتعاداً عن الدولة بوصفها حامية الدين والدنيا، وابتعاداً عن الدين بوصفه خادماً للإنسان ومعتقداً حميماً خاصّا به، فيتحوّل إلى آلة ووسيلة لغاية دنيويّة تتمثّل باحتلال الناس تحت تبريرات دينيّة.
(ونحن حينما نتكلّم بإطلاق في أيّ سياق نذكر فيه الوعي عند الإنسان العربي في هذا المقام، فنحن لا نذهب للقول بالتشابه التام بين فرد عربي وآخر رغم انزواء الذاتية-الفرديّة إلى حدود لا تجعلها منتشرة ومؤثّرة بسبب طغيان الجماعية وانتشار الذاتيّة التابعة المنسوخة، إنّما ننطلق من اقتضاء الجملة في تغطية ما يشاع في مجتمعاتنا ودولنا وفي آثار أعمالنا، وكلاهما: الشيوع والأثر يأخذنان للقول بأنّ الغلبة في التفكير الذي يريد أن يعالج الواقع العربي إنّما هي غلبة لفكر تغيب عنه الموضوعيّة والماديّة وتلتصق به المثاليّةُ والما-ورائيّةُ الذاتيّة، والذاتية هنا لا تعني مجالها الإبداعيّ، بل الذاتية بوصفها نقيض الموضوعيّة، بحكم الذات هنا، تعني الذات التابعة شيوعاً لعاداتها وتقاليدها ومفاهيمها وتقديساتها وشخوصها، ولهذا التفريق بين الذاتية الفرديّة وبين الذاتية المنسوخة المكرورة مقال ومقام آخر).
كيف يمكن إذاً، لوعي موجزٍ وشخصاني وما ورائي أن يتعامل مع المعرفة بموضوعيّة وماديّة هما ليس من أدوات تفكيره، بل أنّ البعض يعتبر هذه الأدوات محرّمة وغير عادلة في نتائجها لأنّها قد تتصادم مع منقولاته!؟ وعي مُتخمٌ بعوامل عديدة تُبقيه في محطات مصيريّة خارج المادة والموضوع، وجميع هذه العوامل ضمن ثقافة شفويّة لم يكن يعنيها أن تستوعب التدوين وقيمته رغم ممارستها التدوين -وإن حذراً- إلاّ أنّك تستطيع أن تبحث فيها وفي أمّهات الكتاب أنّها دُوّنت على نسق شفوي له خطابته ويقينه الثابت، وعلى نسق إيجازي على الرغم من الإطنابات والإطالات والمكرورات، ودُوّنت على نسق شخصاني غير موضوعي، وحسبك إثباتاً إقرار منهج النقل وتكفير منهج العقل والمفهوم الشخصاني في علم الأسانيد، فلا قيمة لمضمون الكلام ودراسته لوزن صحّته وملاءمته للظرف، بل القيمة والمعيار الأول والنهائيّ للشخوص؛ إيماناً بهم ومنهم أنّ الشخص أهم من النص، فمن هذا الذي يستطع أن يعمّد سلسلة رأسيّة تاريخيّة من الشخوص؟ وأيّ غرور يمتلكه حينما يقول عن هذا ثقة فخذوا منه، وعن هذا جرح فابتعدوا عنه!!!!
(ب)
أصلٌ في القانون أنّه لا يعترف بالأشخاص، وحين يفرّق القانون بين شخص وآخر بناءً على الشخصنة، وليس استناداً إلى ظروف موضوعيّة يسنّها القانون علانيّة للجميع، فإنّنا نتّهم القانون بالفساد والانجياز والظلم، وفي هذا المعنى قد لا نختلف كثيراً عن توصيف القانون حينما يمارس العصبيّة الشخصانيّة؛ بينما نكاد لا نقف على المعنى نفسه حينما ننقله من حقل القانون إلى حقل العلم والمعرفة والمنطق والحجّة والبحث والدلالة والمناظرات والمقاربات، وذلك تحديداً حينما يكون البحث أو النقد ضدّ أفكار وسلوك آت بهما (المتبوع) أحد الدعاة أو المشاهير (فلا أريد اقتصار الموضوع على الدعاة وإن كان التركيز عليهم لعظيم أثرهم ومخاطر دعوتهم حينما تتعارض مع الدولة والدين والناس)، فإنّ أتباعه وجمهوره يضرب بكلّ قوانين المساواة جنباً، ويرمى بكلّ القوانين العلميّة ويعتمد أقوال وأفعال المتبوع مهما تبيّن له أنّها مخالفة للعلم والواقع والدين أيضاً، وشيءٌ من هذا وقع تحت تأثير تقديس المفهوم الخاطئ في علم الإسناد إلى الشخوص، وقد فصّلنا قولاً فيه في الجزء الثالث من هذا الموضوع. (ومن الضروري هنا، أن نفرّق بين التقدير والاحترام والمحبّة من جانب وبين حقّ النقد وحق فحص المعرفة والعلم والمنقول وإخضاعه للعقل من جانب آخر، فهذا شأنٌ وذاك شأن آخر، والخلط بينهما يؤدّي إلى مفسدة في المحبّة ومفسدة في العلم، فالتجاوزُ عن حق النقد والنقض مسألة في غاية الخطورة على مستوى القوانين والعدل وعلى مستوى الإيمان الشخصي أيضاً، ولقد فرّق المتن القرآني بين الحبّ والتقدير والاحترام لأفضل شخصين يمكن أن يُفتن بهما المرء، وهما الوالدين الأبوين، الذين وضعهما اللهُ في منزلة عليا كأحقّ مخلوقين للحب والطاعة والوفاء، لكنّ المتن من جانب موضوعي فرّق بين الحبّ والتقدير والوفاء وبين مضمون خطاب الوالدين الأبوين، فإن كان قولهما أو فعلهما شركاً بالله فلقد جاء الأمر بعدم طاعتهما بمعروف، وهو ما يؤكّد على جسارة الأخذ بالعاطفة، فحينما تُقدّر عالماً لا يعني نهائيّاً أن لا تعرض منقولاته أو معقولاته على موازين الخزن المعرفي والتحليل العقلي وغيرها من الوسائل العلميّة).
(ج)
مأزق الوعي العربي الذي يستسلم لأدوات الشعر في قراءة الواقع أنّه يحمل نقيضين نادراً ما يلتقيان دون تصادمٍ أو افتعالٍ، وهما: (الشعرُ، والواقعُ)؛ فالشعرُ بوصفه كلاماً جاء ليكون خروجاً عن الواقع، وإن كان تعبيراً عنه اقتضاءً أو مجازاً أو وجهاً من الوجوه، وإذ يتطابق مع الواقع فهو على ندرةٍ ليست شائعة في وجدان الإنسان العربي المفطور على الشعر العربي المتحرّر من قيود الواقع والمتجنّح في خيالات ما ورائيّة، حتّى أدبيّات نشأته، فإنّهم جعلوه مرتبطاً بآدم والجن، وكم هي الأساطير التي تنتشر حول عبقر وما يتلقّاه الشعراءُ من عون عبر كائنات غير مرئيّة لغيرهم، حتّى نُسِبَ في الجاهليّة: أنّ لكلّ شاعر جنيُّهُ أو جنيّته.
إنّ قياس الواقع بمعايير من خارج مادته تؤدّي إلى غياب الموضوعيّة فيما يتعلّق بفهم الواقع والتكييف معه أو معالجته في مساره، وحالة الجمع بين الشعر والواقع تدعم هذا الغياب وتؤصّل لحالة التيه على أنّها جزءٌ من الواقع، ولعلّه يصبح هو الواقع البديل والواقع هو التيه، فالبعض مقتنعٌ بهذه المبادلة بين الخيال والواقع والبعض الآخر يشعر بغربة حيال هذا الواقع الذي لم يتهيّأ له، وعلى هذا التصوّر يبقى تغيير الواقع منتظراً هلوسات الشعر وخيالاته، وهو ما لا يمكن أن يحدث بعيداً عن العوامل الموضوعيّة؛ فأنتَ لا يمكن أن تتوقّع أنّ رئيساً (حزبيّاً) تتعرّضُ بلاده لغزوٍ أجنبيٍّ والطائرات الحربيّة والصواريخ تغطّي سماء العاصمة بغداد وأكثر من مئة ألف جندي بمعدّاتهم وآلاتهم يخترقون الطرقات باتّجاه إسقاط الدولة والتاريخ والوطن والإنسان، ثمّ يستهلّ خطابه بقصيدة شعريّة. ولا أظنّك تعرف اليوم شعباً تعرَّض لمآسي الاحتلال لأكثر من ثمان وستين سنة كما حال الفلسطينيين أو تعرّض لمآسي حروب أهليّة كما حال السوريين واللبنانيين والعراقيين ثم تجدّ الشعر يقاوم ويرفع عن نفسه أيّ قدرة على تغيير الواقع.
فهل أقوى أن أتحلّى بالموضوعيّة قليلاً، ولو في هذا المقام الذي انتقد فيه وعيي الذي هو جزء من الوعي العربي المجبول على الشعر، فهل لي أن أتّهم الشعر-على حبي له- أنّه عطّل العقل كما فعل النقل الصافي؟!؛ هل زيّف الشعرُ الإنسان العربي واقعه وأخلده في وهم وتخدير، أم أنّ الإنسان العربي أساء للشعر حينما أخرجه من حقله وأدخله حقل الواقع، كما أساء للدين حينما أخرجه من حقل المقدّس والخصوصيّة الفرديّة وأخضعه جمعاً بالسياسة وتحوّلاتها وتقلّباتها؟!