ياسر حجازي
(أ)
في غياب الموضوعيّة لا تبدو الحياة بحدّ ذاتها مفهومة ومقبولة كمجموعة كبيرة من الظواهر والأحداث التي لها تفسيراتها العلمية، لطالما يتخلّى أفرادها عن قانون السبب والنتيجة وعن السياق الماديّ والعللي للأحداث،
وفي هكذا أجواء يصبح الرهان على الأحداث بناءً على القراءة الواقعيّة والماديّة ضرباً من المجازفة، ويصبح الشفاء والصحة والرزق والنجاح والسعادة والغنى والقوّة كلّها مسائل خاضعة لمفاهيم دينيّة محرّفة (اتّكاليّة) وفقاً لتبريرات دعويّة يتجرُ بها من يستغلّ الدين لمصالحه، فتزداد يوماً بعد يوماً بعيداً عن المفهوم الأصلي للمتن القرآني الذي يربط الأمور جميعة بالعمل والعلم مع التوكّل بالله والصبر على نتائج العمل المعاكسة وإعادة المحاولة دون استسلام لحالة خالية من العمل والتجريب والسعي؛ وأصلٌ سببيٌّ في شيوع هذه الحالة الاستسلاميّة الاتّكاليّة عائدٌ إلى فقدان الموضوعيّة، بل يذهب البعض إلى إعلان كرهه للحياة والواقع تأثّراً بدُعاةٍ لا ينفكّون يأخذون الناس بعيداً عن الواقع؛ والذي يجب الوقوف عنده لهؤلاء الأتباع الغارقين في تقديس دُعاتهم تذكيرهم: أننا ندّعي الوحدانيّة في إيماننا ثم نجرح هذه الوحدانيّة بتقديس شخوص نضعهم في مكانة لم يبلغها حتّى الأنبياء، وأنّنا ندّعي انتماءً وطنيّاً ثمّ نجرح هذا الانتماء باتّباع شخوصٍ ودُعاةٍ يكفي مُجرّد وجودهم لإثارة التساؤل والتشكّك؟ فكيف إذا كان وجودهم مدعوماً بممارسات دينيّة دون صفة رسميّة أو صفة وظيفيّة لأجل لمّ التبرعات وزيادة الأتباع في أقل درجة مخاطر ووصولاً لدى البعض إلى أهداف سياسية لا تخدم الدولة والوطن ولا تعود بمنفعة على الأتباع بل والدعاة أنفسهم أيضاً!!! ما الذي يريده هذا الشخص/المتبوع؟ ما الذي يدعوك إليه؟ ولماذا تتبعه؟ ولماذا هناك غاية في الإتباع؟ ولماذا يستمرّ بهذه الأريحيّة دون صفة رسميّة منظّمة بقانون؟ ما الذي يقف عثرة في تنفيذ حظر على هذا التمدّد في كلّ القنوات والمنابر والمواقع والمساجد أينما ذهبت في الدول العربيّة، وبعض منابر الدول الديمقراطية حيث يستغلّها الدعاة؟ فكلّ مهنة لها قواعدها ووظائفها وأحكامها وقوانينها وضوابطها؟ فعلى أيّ مهنة يقع هؤلاء الدُّعاة؟ فوجودهم الدعوي غير قانوني وغير مسوّغ تحت أي ذريعة اجتماعيّة أو سياسيّة، ولا يمكن تسويغه قانونيّاً، وكلّ استناداتهم في بقائهم واهية ومشبوهة، يستغلّون عاطفة الناس المتدينين وعدم تفريقهم بين الدين وما يسمّى رجال الدين، أو من يدّعي حمايته للدين وهو خارج مؤسسات الدولة، بينما مجرّد وجود داعية خارج مؤسسات الدولة يستأثر الدين لمصالحه يُعد انتهاكاً للدولة والدين معاً، فالدين لا يحتاج لحماة سوى من سلطات الدولة في إباحة حقوق الناس بممارسة الشرائع دون استبداد وظلم، وهؤلاء أبعاد ما يكون على أن يكونوا طرفاً مع السلطة في تنفيذ القانون، وهذه أحلامهم وأبعد من ذلك أيضاً، وآخر همهم الالتزام بالقوانين أو مراعاتها وعدم جرحها والتعالي عليها، وحجّتهم في ذلك: «هذه قوانين مدنيّة ويحقّ لنا تجاوزها طالما لم ينزل الله بها من سلطان»، وذلك انشقاق فعليّ عن متطلّبات العقد الاجتماعي. وقد كُتبت العديد من المقالات حول هؤلاء الدعاة، وغيرهم من فئة المحرّضين على الانشقاق أو القتال خارج البلاد، والذين يحرّضون الشباب ضدّ الكتّاب ومسؤولي الدولة، والذين يصنّفون الناس: (هذا كذا، وهذا كذا)، ويوزّعون من لدنهم صكوك غفران وصكوك جحيم؛ ويبقى التساؤل: متى تنتهي هذه الظواهر الداخلية القابلة للاشتعال في أيّ وقت؟ خاصّة وأنّ انكشافهم أمام أتباعهم لم ينقص من تأثيرهم، لطالما عقول الأتباع مؤجّرة وغائبة عن الموضوعيّة، وتبرّر لهم أفعالهم وأقوالهم، تحت نظرية شخصانيّة وأخرى تآمريّة، تكون الدولة والأشخاص الطبيعيّون فيها هما المتهمون، ويبقى هؤلاء الدّعاة في عيون أتباعهم مظلومين، وأنّ الله ناصرهم قريباً؛ مَن المسؤول عن سريان هذا التصوّر الذي يقضي على أيّ أمل في الإصلاح دون ردعٍ وحظر، لطالما لهؤلاء الفئة من الناس سلطان على الناس بحجّة الدين واقتطاع مقولات منه بإيجاز وبتر يخدم مصالحهم وأهواءهم ولا يستند إلى موضوعيّة أو علميّة، كما لا يستقيم مع السياق العام للمرجع الذي يقتطعون منه أقوالهم واستناداتهم.
(ب)
ومن أسباب غياب الموضوعيّة، الفهم الخاطئ لعلم الإسناد والجرح والتعديل والذي أصّل لمفهوم مفاده تقديس الشخص وتجاهل النص، علم بذلك الذين اجتهدوا في هذا المنهج أو لم يعلموا بمآلاته، لأنّ الأثر المباشر حينها لم يكن ليظهر في أمّة سياسيّة قويّة أعمالها دنيويّة مفصولة عن العلوم الشرعيّة التي كان يطرحها فقهاء القرون الأولى، بينما اليوم، وقد تداخل التأثير بحيث إنّ العائلات والمؤسسات الأهلية والرسميّة مجبولة بالتراكم التاريخيّة الم عاصر على الخلط بين مفاهيم سياسيّة مع مفاهيم دينيّة مبتورة فإنّ التأثير يكون أكثر قوّة ونفاذاً، وعلى هذا الأساس أحضرنا تأثير المفهوم الخاطئ لعلم الإسناد وأثره على غياب الموضوعيّة كجزء من مبحثنا عن الموضوعيّة والبراجماتيّة والواقعيّة.
ما الذي قد يُفضي إليه علم الإسناد والجرح والتعديل في الثقات من الرجال؟ بحيث إنّ هذا المنهج يعتبر الإنسان هو القيمة وليس ما ينقله أو يبحث فيه، فيكفي أن يكون الإنسان ثقة لنأخذ بما لديه بغضّ النظر عمّا لديه؟ هل يتوافق هذا المنهج مع المتن القرآني الذي أسّس الدين وأغلقه؟
في التاريخ الديني للكتب المقدّسة فإنّ المؤمنينَ -كلّ تبعاً لمنهجه وشريعته- آمنوا بها استناداً إلى مضامينها، فقد بُلّغت على ألسنة أنبياء ما كانوا أصحاب نفوذ وشهرة وأتباع، والمقصد والربط من هذا التقديم أنّ تكاثر الأتباع بعد ذلك كان لأجل المضمون والنصوص ولم يكن آخذهم الكتب والمعرفة لأسباب تتعلّق بالناقل وحسب، فلقد أُعجب النجاشي بدعوة النبي العربي عليه السلام حينما استمع إلى مضمون النص، ولم يأخذ في حكمه مكانة المهاجرين الأوائل الذين وقفوا أمامه أو مكانة خصومهم بل احتكم للمضمون، وكذا فعل الوليد بن المغيرة فيما ينسبه التاريخ له حينما استمع للمتن القرآني، فقد فصل بين الشخص والنص، فعلى الرغم من عدم إيمانه، فلقد لمس جزءاً من الموضوعيّة على ندرتها في الزمن الجاهلي المنقول لنا، وقال شهادة في المتن القرآني حينما فتنه إعجاز المضمون: (إنّه يُعلو ولا يُعلى عليه) وكانت شهادته دون إسقاطات تحت تأثيرات خصومته، على الرغم من النتيجة الشخصانيّة التي تخصّ التساؤل عن مصدر النص، فعلى الرغم من إعجابه بالمضمون إلاّ أنّه كابر وخشي مكانته في قريش فلم يؤمن.
بينما لو تأمّلنا منهج الإسناد وكيف يُصادق على المضمون بالاستناد إلى الشخوص: (فثقة أو ضبط أو عدل أو جرح وغير ذلك..) ممّا تحتشد فيه كتب علم الجرح والتعديل في اهتمامٍ جعل البعض يعتبر الإسناد خصيصة خصّها اللهُ لهذه الأمة دون الأمم، وأنه لا صحّة لحديث بغير إسناد، ومناقشة الإسناد مبحث يطول وليس هذا مقامه أو مرامه بقدر ما نستحضره هنا لأجل قراءة التراكم العواملي لأسباب نزعم أنها تسبّبت اليوم جزئياً أو كليّاً أو أُسيء استخدامها وأدّت إلى غياب الموضوعيّة، فتقديس الشخوص والدعاة والعلماء والمشاهير أيضاً في أيّ مجال آخر، وغيرهم من الشخوص إلى درجة التبرّع لهم بالعقول والتفكير، هي حالة من توجيه الوعي عبر تراكمات جيليّة، ونعتقد، أنّ المفهوم الخاطئ لعلم الإسناد وصناعة الأبطال والشعراء جَبلت وعي العربي على الاستسلام لهذا المنهج على الظنّ منه، أنّه منهجٌ قويمٌ يُفضي بالضرورة إلى سلامة الفكر والواقع، ولذلك لا يعترض على كلّ منقولاتهم أو آرائهم أو علمهم أو يعرضها على المخزون المعرفي الإنسانيّ، بل ربما حارب من يقوم بهذا الفعل ومن يخضع المنقول لميزان الوعي والبحث.
يعتمد علم الإسناد على تصنيف الرواة كما نعلم جميعاً، ويزعم أحياناً في جرحها وتعديلها أنّه يقارن رواة بآخرين (ولا يقارن النص بالنص المقدّس المرجع) وهذه الروايات المرجعيّة يعتبرون أصحابها ثقات ككلمة نهائيّة ومصدّقة لأي مضمون، وهذا تحديداً خطورتها، فمن خالف مضمونه مضمون روايات الثقات تم جرحه، ومن توافق معهم تمّ اعتباره ضابطاً وعدلاً، وفي هذا المنهج ما يُصدّر إلى قيمة الإنسان وتقديسه ورفعه فوق مستوى الشبهات، وفوق مستوى الطبيعة، وإنّه من الاستحالة بحالة من الأحوال لأي باحث في العالم أن يقرأ في شخصيات سلسلة من الشخوص غائبة بالوفاة، ولا يمكن التحقّق أبداً من صفاتهم مهما كان الناقلين عنهم في حالة صدق، لأنّ الصدق جزءٌ من الحقيقة ولا يمكن لشخص أن يشهد لشخص آخر في سيرته عن كلّ حياته، فأنت إذ تعجزُ أن تقرُّ وتشهد بسلامة وصدق وأهليّة أيّ شخص حتّى أقرب الناس إليك وما يخفي في سريرته فذلك علمه عند الله، والأصل أنّ نفس الإنسان مجبولة على الفجور والتقوى، وأنّه لا معصوم عن الأخطاء الإنسانية في محل الدنيا حتّى الأنبياء عليهم السلام، فكيف يراد لعلم الإسناد أن يجعل العشرات من الرواة والذين يكتبون عنهم أو يصنّفونهم فيرفعونهم فوق طبيعة الإنسان بحيث يرفع عنهم: السهو والنسيان والخطأ غير المقصود، وتجاهل جزءاً مهمّاً ممّا يحفظه بناءً على الظنّ المعرفي لديه أنّه غير مفيد، أو إضافة زيادة على حسن نيّة يظنّها تخدم المعنى، أو سوء الفهم، أو سوء النقل، أو سوء التواصل، أو غفلان العلّة في المضمون، وهل كان المضمون مطلقاً أو محصوراً؛ وكلّ هذه الصفات التي نذكرها هنا ليس فيها إساءة لأيّ شخص، إنّها صفات إنسانيّة غير مذمومة بمعنى أنّها غير قصديّة وليس فيها سبق الإصرار والتعمّد، ولم نتطرّق للصفات السيئة كالكذب والاحتيال وسوء النيّة وغيرها، فليس هذا مرادنا إطلاقاً، بل مرادنا أنّ الشخص مهما بلغ من الصدق والأمانة وتحلّى بالصفات الإنسانيّة النبيلة فإنّ هناك صفات إنسانيّة لا تتعارض مع خلق الإنسان، لكنّها في الوقت عينه لا تُعينه على نقل المعرفة شفويّاً من جيل إلى آخر، وهكذا سلسلة تستلزم وجود سلسلة من الشخوص الذين صادف أنّهم ساعة قول المضمون كانوا جميعاً في خلوّ من الصفات الإنسانية القابلة للسهو والنسيان وسوء الفهم وغيرها من الصفات التي تجرح المفهوم الخاطئ لعلم الإسناد مهما كان قويّاً؛ والأصل أنّ القيمة في المبتدأ ولمنتهى للمضمون المنقول فيكفي عرضه على المتن القرآني والعقل الإنساني لمعرفة قيمته ومدى قبوله وصلاحيته للتطبيق، وإلى أي مدى هو محلّ منفعة؛ فكلّ هذه الصفات الإنسانيّة يستحيل عدم وجودها في جميع الشخوص الناقلين للمضمون، لذلك لا يبقى لهم إلاّ التسليم بمضمون ما ينقلونه، وذلك في ذمّة الناقل الفعلي للراوي إن وجد، وفي ذمّة الراوي لا محالة. هكذا استمرّ تقديس الشخوص من أدوات الوعي العربي وفقاً لمفهوم خاطئ للإسناد، مما عطّل العقل عن دوران التمحيص والتدقيق والبحث، حتّى قالوا بقفل الاجتهاد، وهو حاصل دون إعلان، فحينما يؤجّر المرء عقله ويتنازل عنه لفلان أو فلانة، وإن بلغ من العلم ما بلغ، فلا يقبل من أحد أن ينقد فكرة خاطئة أو سلوك، فذلك سبب رئيس في غياب الموضوعيّة، وغياب الموضوعيّة كلمة حديثة ومتقدّمة لسلوكٍ وعقليّة قديمة كانت تدعى: جااااااااااهلية.