ياسر حجازي
تزداد ظاهرة وجود وانتشار الدعاة - وهي ظاهرة سبق أن شرحنا تعارضها مع المتون الدينيّة التاريخيّة، وعرض مخاطر وجودها وانتشارها على واقع الدولة، ومخاطر الظاهرة تزداد اطّراداً بازدياد عديدهم وقنوات ظهوره وأتباعهم،
إذ يتورّط الأتباع ويجدون أنفسهم عالقين في تصوّرات وقناعات وطريق لا يتوافق مع مراجعهم الدينيّة التي يعتمدونها ويتصوّرن فيها راحتهم بما لا يؤثّر على حياتهم وانتمائهم الوطني، بينما تأتي على عكس ذلك ليجدوا أبناءهم متورّطين مع جماعات خارجة عن القانون تحت حجج دينيّة، والمشكلة في الأتباع الذين تحاول أن تعيدهم إلى الدولة والواقع فتكشف لهم زيف ادّعاءات الخطاب الديني السياسي ودُعاته بأيّ حلّة تزيّوا وبأيّ قناعة تلوّنوا، لكنّ الأتباع مهما كشفت لهم أخطاء هؤلاء وجدتهم عالقين في عبادة الشخص وكافرين بالنص، وذلك في زعمهم وسلوكهم/قولهم وفعلهم: (أنّ الحقَّ والصوابَ يُعرف من قائله وفاعله بغض النظر عن مضمون قوله وفعله، وأنّهم معاذ الله أن يأتوا بباطل وضلال)، وليس أكثر من خطر على الدولة ومكوناتها أن يصل الناس إلى هذه القناعة المدمّرة لوجودهم كعقلاء يميّزون الحقّ من الباطل، ويميّزون القانوني من غيره، بناء على مضمونه وليس بناء على قائلٍ يتورّطون باتّباعه بإعجاب سحريٍّ يُلغي عقولهم؛ ويكفي تبعاً لهذا المنهج السحري أن يقول الداعية ما يريد وما يتّفق مع مصالحه وأهوائه حتّى تجد التابع مسحوراً بذاك القول دون أن يعرض القول على ميزان العقل، أو ربما يتعارض مع عقل التابع وعلمه لكنّه يتغاضى عن ذلك في سبيل عدم التقليل من قيمة الداعية، أو لا يعنيه ما معنى القول نهائياً تحت تأثير عبادة الشخص وتنزيهه عن العيب والنقصان؟ ولمن منفعته؟ وعلى من مضرّته؟ وخذ مثلاً، حينما يبدأ الداعي في تكفير الأشخاص أو الدولة: «هذا كافر، وهذه الدولة كافرة..»حتّى تجد أتباعه يقرّون بقوله دون تمحيص القول، وإلى أين منتهاه وعقباه؟
* *
يُنسبُ للإمام علي مقولة: «يُعرف الرجال من الحقّ، ولا يُعرف الحقّ من الرجال» وأيّاً كان قائلها فإنّ القيمة في مضمونها وليس في قائلها أو ناقلها، والمقصد في المقولة لزيادة الشرح والوضوح أنّ قيمة الإنسان تزداد بما يقوله ويفعله مقارنة بالحقّ، ولا تتغيّر قيمة الحقّ نقصاناً أو زيادة إذا ما نطق بها فلان أو علان؛ فمكانة الإنسان وعلمه وصدارته لا تشفع له كمصدّق لقيمة كلامه إذا لم يكن كلامه يحمل هذه القيمة نفسها بالمقارنة مع مستوى العلوم ووسائل التحقّق العلميّة في كلّ زمان ومكان، كما أنّ وضاعة إنسان ما لا تجعله مُجانباً للحق إذا ما نطق به، فالحَكَم في الحقّ والعلم والمعرفة ليس قيمة الإنسان ومكانته بين الناس، بل الحَكَم لمضمون منطوقه وفعله؛ هذا من جانب ما يقتضيه المعنى من وراء التفريق بين الحقّ والحقوق والعلم وبين قيمة الإنسان ومكانته وكثرة أتباعه، والمقتضى أنّ لا عصمة لإنسان فيما يقول، فمهما بلغ أحدكم من علمٍ وخُلقٍ فإنّه يبقى دون مفهوم العصمة في النسيان والسهو وسوء الفهم وسوء التواصل والاجتزاء والبتر وعدم التركيز أو السمع الخاطئ وأيّ خطأ غير مقصود أو تحليل غير موفّق وهكذا، وغيرها من الصفات الإنسانيّة التي تبعد الإنسان على أن يكون حاملاً لمفهوم الثقة والصدق الكاملين دون نقصان أو عيوب أو شوائب بين حينٍ وآخر وبنسبٍ متفاوتة بطبيعة الحال؛ وكلّ هذه العوامل تجعل المرء مهما ارتفع قدراً فإنّه عُرضة لعوامل عديدة تجعل علمه ومنطقه قابلا للنقض والنقد والرفض والمعالجة والمعارضة، بناءً على طبيعة العلم والمعرفة أنّهما قابلان للنقض والنقد والتجريب والتعديل، وأنّهما بحال من الأحوال لا يتأثّران بقيمة الأشخاص الناطقين بهما، بل يتأثّران بمضمونهما من حيث متانة الحجة وسلامة المنطق وقابلية تحقّقهما ومنفعتهما، وليس مكانة الناقل أو الباحث.
والحال اليوم، تزداد ظاهرة عكسيّة للمقولة والمبدأ المعرفي والقانوني، بحيث (يُعرف الحقّ من الرجال)، وهو تحديداً ما يجعل الحق والحقيقة مجرّد أهواء وبضاعة بيد أشخاص كلّما ازداد نفوذهم وأتباعم كلّما مرّروا ما يريدون من التصوّرات التي تخدمهم وتضرّ بالصالح العام، وهذه الظاهرة تتزامن مع كثرة الدعاة وكثرة المشاهير الذين يريدون استغلال شهرتهم لتمرير أجندة شخصيّة تضرّ بالصالح العام، وقد طغى حضورهم وانفلاتهم وأتباعهم على القنوات جميعة: (الميديا، التواصل الاجتماعي، المنابر، المساجد، المدارس، الجامعات، أنشطة البلديات والقرى، المسارح، .. وغيرها في كلّ تجمّع تجدّهم أحرص الناس على استثمار تكاثر أتباعهم) فماذا تعني هذه الظاهرة التي يتنازل فيها الأفراد عن إرادتهم وتفكيرهم بالاستسلام لشخص ما مهما بلغ من العلم أو الشهرة؟ من سوف يكون مسؤولاً عن هذه التبعيّة الجاهلية أمام القانون حين يتورّط المرء بهذا الاتّباع: (هل يسأل الفرد التابع هذه الأسئلة حينما يستسلم لعبادة الشخوص)؟ وحتّى على المستوى الديني فإنّهم يقرّون فهمهم لمعنى (وكلّكم آتيه يوم القيامة فرداً) فعلى أيّ أساس يلحقون بالدعاة ويستسلمون لأفكارهم في لا مبالاة عظيمة لعقولهم؟ ماذا يعني وقوع الأتباع في الشخصنة والذاتيّة والابتعاد عن الموضوعيّة إلى الحدّ الذي لا يعد للموضوع قيمة سوى أنّه شماعة لعداء شخصيّ أو التسويق لشخص؟
* *
وتمثيلاً على غياب الموضوعيّة وتعميتها وبقائها بيننا كأنّها حالة طبيعيّة وليست استنثاءً هالكاً يقتضي إزالته، أنّنا على الرغم من وجود إسرائيل الفعلي فإنّ خرائطنا الجغرافيّة لا تشير إلى وجودها، وأنّنا في مسألة مسمّى الخليج الفارسي كما حاله في خرائط العالم الأطلسيّة فإنّنا نعتمد مسمّى الخليج العربي في خرائطنا، وأنّنا نتحدّث عن انتماءين لعالم إسلاميّ وآخر عربي على الرغم من عدم وجودهما المادي الواقعي، وأنّنا لا نسمع أيّ موضوع تطرحه إسرائيل ولا نسمح لأنفسنا معرفة هذا الكيان وطبيعته وحياته وأخباره وعلومه على الأقل من باب: (معرفة عدّوك)، ومؤخّراً إيران وما أدراك ما فوبيا إيران؟! فلا نلتفت إلى أيّ موضوعات تطرح بعين مستقلّة عن العاطفة الشخصانيّة، وهي التي تجعلنا نعمى عن رؤية حقيقة الصراع في الخليج ونذهب في أمور لا-موضوعيّة غير قادرة نهائية على تفهّم الصراع وإدارته والتفاوض على استثماره بما ينهي الصراع لمصلحة مشتركة، وليس على أساس أوهام عاطفيّة ترى الإقصاء حلاً في تصوّراتها لإدارة الصراعات، وهو أبعد ما يكون عن الموضوعيّة في علاقاتنا الإقليميّة مع إيران أو في إدارة نزاعنا وصراعنا مع دولة إسرائيل؛ فهذه العاطفة الشخصانيّة في رؤيتنا للذات وتقويمنا للآخر مسؤولةٌ عن إهمال الموضوع الواقعي، وهذا اللحاقُ وراء أوهام شخصانيّة في العداء والزعم بالأفضليّة والأحقيّة وكلّ يفصلنا عن الآخر دون موضوعيّة، فأدوات تفكيرنا الفعلي عاجزة وناقصة بفضل الإيجاز في المعنى وعبادة الذات والشخوص وتعطيل العقل، بحيث نوجز العدو على أنه عدوٌ أبدي، وكلّ ما يقوله أو يفعله محض عداء، وأنّه دائماً على خطأ، ونوجز العلاقة مع العدوّ أنّها لا بدّ أن تقوم على البتر والإقصاء، أيْ إدارة العلاقات مع الأعداء على مبدأ إقصائي إيجازي اختزالي (أنا أو أنت) وهو المبدأ الذي تتجاوزه المدنيّة المعاصرة ولم يعد له شيوعاً في البقاء والاستمرار، طالما المدى الإنساني انفتح أمام ما بعد الثقافات والحضارات في اتساع أمام التعايش بعيداً عن الخصوصيّات والديانات، وذلك تأكيداً بأفضلية الانفتاح العالمي الذي تحقّق بفضل أشخاص ينتمون (إلى الفرديّة الذكيّة) وليس دولاً استعماريّة وما شابه ذلك من قصص (تُدمر ولا تعمّر)؛
وتمثيلاً على الشخصنة في أعنف حالاتها والابتعاد عن الموضوعيّة، فإنّنا في بداية العمليات الانتحاريّة الفلسطينيّة ضدّ المدنيين الإسرائيليين لم نكن لنسمع اعتراضاً كبيراً من المواطنين العرب إلاّ ما ندر، ومن اعترض اتُّهم حيانها بالخيانة وبأشنع الأوصاف، وغياب الموضوعيّة يتمثّل هنا بأنّنا لا نرى أبرياءً عند العدو من مدنيين وأطفال، بينما إذا قامت إسرائيل بقتل أبنائنا فإنّنا حينذاك نفهم معنى الأبرياء والمدنيين؛ وذلك ما تسمّيه اللغة الشعبيّة: (الكيلُ بمكيالين)، والغريب أنّنا لا ننسى هذا القول في نقدنا للغرب، بينما لا نراه نهائيّاً حالّاً ومتلّبساً عقولنا وتعاملاتنا مع الذات والآخر.