ياسر حجازي
(1)
على الرغم من التعامل الثقافي والمعرفي مع وسائل التقنية الحديثة عبر قنوات فضائيّة وشبكات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، إلاّ أنّنا ما زلنا لا نلمس في قولنا وفعلنا ما يدلّل على أنّنا نعتمد في ثقافتنا على ما يميّز هذه الوسائل والعلم الذي أخرجها،
من اعتماد الموضوعيّة والتجريب فوق اعتبارات الشخصنة واجتراء الأحكام بناء على خلفيّة ثقافيّة لا تنتج حكماً علميّاً، وفي سبيل معرفة الأسباب التي تؤصّل لحالة غياب الموضوعيّة وطغيان الشخصانيّة، فإنّنا نرصد عوامل عدّة، نتحقّق منها عبر مقالات عدّة بين الفينة والآخرى من هذا الموسم الثقافي، ولعلّنا نشير في المبتدأ جملة منها: (الإيجاز، المرجع الشخصاني أو تقديس الناقل/ القائل، المرجع الشعري والأمثالي، النقل، الترادف، البعد الديني التأويلي).
(2)
البحث في قول البلاغيين العرب في ضبطهم للإيجاز: (أنه القول الموجز الذي لا يخلّى بالمعنى) وتفكيك المقولة ونقدها يفتح باباً ومقدّمة لإدراك أحد أسباب غياب الموضوعيّة؛ وفي التأمل الأول لضبط الإيجاز واشتراطه المعرفي: (عدم الإخلال بالمعنى)، وهو اشتراط على صوابه إلاّ أنّه يأتي هنا لكي يدعم صوابية الضبط ويخدم تسويق الإيجاز بوصفه آلة معرفيّة كانت من الأدوات المتداولة ضمن الثقافة الشفويّة والثقافة الدينيّة التوجيهيّة، فهذا الاشتراط على قدر صوابه في إظهار الغاية من الكلام وهو (المعنى) إلاّ أنّه في الوقت عينه لا يستقيم كمخرج طبيعي للإيجاز، فليس الإيجاز بقادر على إنتاج المعنى دون الإخلال به وعدم رمي السامع أو القارئ في متاهات المجاز والتأويلات، وهو النموذج الذي طرحه ضبط المصطلح والمبشّرون به استناداً إلى التأثّر بالمرجع الشعري العربي والأمثال والمرجع النثري المقطعي: (المقطوع من السياق الزمني، المكاني، والغائب عن التعليل والتسبيب)؛ ولذلك نجد الضبط للإيجاز يستند دون حجّة وإثبات إلى قوالب ثابتة هي قوالب البيت الشعري وهي قوالب لا تستوعب المعنى المعرفي السببي أو المعنى السردي الترابطي والعللي؛ وليس صعباً الاستدلال على غياب العلميّة والمعرفيّة والسببيّة في الكثير الكثير من منقولات العرب الشعري أو النثري المبتورة/ المقطوعة أو المنشورة بوصفها مقاطع مبتورة عن سياقاتها، ويمكن لنا بالإثبات المادية في قراءة النثر المعرفي والسرد الترابطي العللي أن نثبت أنّ الإيجاز في القول المعرفي والسردي من طبيعته أنه يخلّ بالمعنى، حتى في نقد هذا الإيجاز في ضبط المصطلح: فما هو القول؟ وما هي مقاييس الموجز والمطنب؟ وعن أي معنى نبحث: المجرّد أو المسبّب؟ وأين السياق وأهميته في الضبط وما هو موقعه من ضبطهم للإيجاز؟.
وربما في هذا ما يشرح أكثر أسباب غياب الموضوعيّة وذلك في مأزق الثقافة العربية المبنيّة على الإيجاز والبتر والقفشات والمقاطع المبتورة والنقل وتقديس الشخوص، ومؤخراً التغريدات، فهي ليست غريبة عن الثقافة الشفوية والجُملية التي تربّى عليها العربي في الأمثال والأبيات الشعرية والمقتطعات الدينية التي جُبل عليها الوعي الفردي للإنسان العربي، ولذلك نجده تعلّق في مواقع (تويتر والفيس بوك) لأنّها تمكّنه من إظهار ما يخزنه من ثقافة موجزة مبتورة في شكل تغريدات لا تملك قدرة على إثبات نفسها بنفسها، فهي دائماً تحتج إلى ديباجة للنفي إن كان الإيجاز يخصّ نفي حجّة، أو ديباجة إثبات إن كان الإيجاز/ التغريدة تخصّ حجّة إثبات، وهكذا في السياقات الأخرى المعرفيّة والسببيّة والعلليّة والترابطيّة، وليس من اليسير إثبات عدم تأثير الإيجاز الثقافي عليه في علاقته مع الواقع الذي يفرض عليه شروطه السببيّة بينما يقف أمامها عاجزاً عن استيعابها والتأقلم معها بقناعة تؤصّل لنقل الواقع وتحولاته إلى خطاب يستوعبه العربي دون أن يجرحه أو يظنّ في الواقع حالة اغتراب، وذلك لغياب المعنى الواقع وغياب الموضوعيّة في قدرته الثقافيّة لاستيعاب واقع يأتي الإيجاز والشخصنة والنقل أهم أدواتها في التعامل والتفاعل مع الواقع؛ وهذا ما يفسّر عدم نضوح المعرفة العلميّة والتفاعل البراجماتي مع الواقع ضمن سياقاته؛
وكلّ هذه الإشكالات تُقصي طموح الإيجاز في بلوغ المعنى المنجز لمعرفة، ولعلّ أرقى انجازاته أن يكون قولاً جميلاً، أو أقصى طموحه أن يكون مفتاحاً أو باباً لمعرفة، لكنه في الكثير من المقولات الموجزة فاقداً لحملان الإثبات، ولا يقدر على إثبات صحّته وقيمته، ذلك أنّنا نتبنّى: أنّ الحُجّةَ والسياقَ في المقولة جزآن أصيلان يتداخلان في معناها، وإلا فقد القول غايته من القول في إيصال المعنى وما أدّى إلى ظهور المعنى سبباً أو علّة أو ترابطاً عبر السياق المعرفي أو السردي أو التشريعي الذي يحتاجه المعنى حتّى لا يتمّ الإخلال به.
(3)
من هنا، فإنّك إذ ترى التأثير الشعري على الخطاب المعرفي والسردي والتشريعي أيضاً، فإنّ التأثير لا يقف عند حدود اللغة الشعريّة والترادف والمجازات والتأويل، إنّما يتعدّه إلى خصوصيّة في الشعر تتمثّل في الإيجاز واللمح، علماً بأنّ الشعر قد لا يكون معنيّاً بإظهار المعنى النهائي لقوله، وهو ما غاب عن الاستناد إلى الاستدلالات الشعريّة وما يجرى مجراها في إثبات صحّة الإيجاز وقيمته في الكلام والمعنى معاً، ولذلك فأنت في سبيل البحث في حقول العلم والسياسة والتشريع بحاجة أن تبتعد عن التأثير الشعري وتبعاته.
كما أنّنا نفرّق هنا بين الإيجاز وبين الجملة القصيرة الخبريّة التي تفصح عن معنى تامّ، عادة ما يكون ضمن سياق أعم وأوسع ويجدر أحياناً الإشارة إليه حتّى لا يخلّ المعنى السياقي والترابطي بين الجملة التامّة وبين سبب وجودها أو ورودها.
ونحن هنا لا ننكر أنّ البلاغةَ أصلٌ أساس في إيصال المعرفة، وأنّها فوق اللغة والنحو في تمكين المعنى وغايات الكلام، لأنّ المعنى في سياقه الجُملي والكلامي هو الذي يفصح عن دلالاته، وليس دلالات مفرداتها منفردة كما دلّل على ذلك الجرجاني في كتاباته، لكن اشتراطات الإيجاز كما نراه اليوم هي نطقة ضعف البلاغة كما تمّ التقديم لها وكما طفحت تأثيراً في الثقافة العربية، ولا يجب أن يأخذ على أنّه “قانون أو أداة معرفة”، إذ نرى أن الاكتفاء بالإيجاز يشتّت المعنى الذي هو المعرفة في هذا السياق الذي نقدّم له.
وإن كنا نرى الإيجاز موفّقاً في الشعر، فذلك لطبيعة في الشعر لا تقف عند التبشير بالمعنى، بل لعلّه في كثير من الشواهد يقوم على الإخلال بالمعنى عامداً متعمّداً لأجل إشعاع حالة من التأمّل تعود على المعنى الأعم بخدمة غير مباشرة قد يراهن الشاعر على أنّ تأثيرها في الوجدان أكثر ثباتاً من تأثير إيصال المعنى على طبيعته الدلاليّة النثريّة، وطبيعته أنّه يفتح الآفاق عبر جمل موجزة بلاغية أقصى طموحها أن تكون مفاتيح التأمل والانتقال إلى عالم النثر للبحث في تصوّرات شعرية، غالباً، ما تعجز أن تتطابق مع العالم المادي، ذلك أنّ طبيعة الشعر محض لغوية وفلسفيّة غير مادية علميّة.
(4)
وما يُخشى باعتماد الإيجاز كوسيلة لإظهار المعنى أو وسيلة للمعرفة أنّه يأخذك للتأويل بالضرورة، لطبيعته المبتورة عن سياقاتها، ممّا يضعك في طريق البحث في مفرداته المجازية المضغوطة، أو البحث في جملته الواضحة في بنائها ومعناها الأوّلي لكنّها مبتورة السياق العام: السببي والترابطي. وهو على هذا السياق لا يصلح أن يكون لغة معرفة تبحث الدقة والوضوح أو لغة علمٍ للعلوم والمعارف خاصّة إذا كان الإيجاز نفسه متورطاً بالمجاز.
والذي يستدعي الوقوف عنده هنا: أن يكون العرب على ثقافة بالكلام والمشافهة واللغة لكنهم يعتمدون أدوات الإيجاز حتى في الإطالة، ممّا يجعل العقل المجبول على الأبيات الشعرية والأمثال وقراءة فهرسات الكتب والموضوعات عقلاً واقفاًَ عند أبواب العلم ولم يدخلها تماماً؛ لأنّ الدخول يستوجب ترك الإيجاز عند بدايات وأبواب البحث والمعرفة.
وقد يكون مقبولاً للتسلية والترفيه -دون إدراجها في مجالات المعرفة- تلك الأسئلة التي يتداولها مقدّمو البرامج الترفيهية والتلفزيونية التي تطلب اختزالات لمصطلحات معقدة بكلمة واحدة أو جملة واحدة، وهذه الاختزالات البريئة لا يجب أن تخرج عن مجالها الترفيهي، وإلا وقعت في التسطيح والساذجة.
- بكلمة واحدة قلنا ما هي:.......!؟
وأنت لا تعلم كيف يرضى معدّ هذه البرامج ومدير الإنتاج والإخراج والمقدّم والضيف هكذا أسئلة، فمجالات المعرفة لا تتحمل هكذا اختزال أو الوقوف عند المقولات وتفكيكها دون الذهاب إلى الحالات التي استدعت وجود هذه المقولات.
(5)
وفي إشكاليّة الإيجاز وتأثيره على الخطاب العربي الثقافي السائد والفاقد للموضوعيّة أنّ الإشكاليّة لا تقف عند حدود الكلام أو الكتابة، بل تصل للقراءة الموجزة أنها تجعل صاحبها حاملاً لمعرفة ناقصة، معرفة رؤوس أقلام عادة ما تجعل أحكامه مبتورة نظراً لغياب الصورة كاملة، والأهم غياب العلل والأسباب في استيعاب الحجّة: في حالتي الإثبات أو النفي، وكلاهما لا يظهران عند القراءة الموجزة، ويأتي التحيّيز للرأي المطروح صفة من صفات الإيجاز وغلبة النقل في المعرفة بالاستناد إلى الشخوص، وشيوع اتخاذ الحقّ والمعرفة من الرجال بغضّ النظر عن مضمون ما يقولون أو ينقلون، وهو ما سوف نستفيض به في مقال آخر إكمال لبحث أسباب غياب الموضوعيّة، وتحديداً اتّخاذ الحقّ من الرجال بينما الأصل “معرفة الرجال من الحق”.