هل كانت الخلافة قائمة على سياسة الدنيا بالدين، كما ذهب التأليف السياسي العربي الإسلامي في باكورة التأليف والتنظير السياسي، كما ذهبت الحركات الدينيّة السياسيّة منذ تأسيس حركة «الإخوان المسلمون» على تأصيل هذا المفهوم الذي يؤكّد على الجمع بين السياسة والدين تبريراً وجوديّاً لشرعيّة حركاتهم وشرعيّة مقولاتهم التي قمنا بنقدها على حلقات في الثقافيّة، أمْ أنّ الخلافة كانت سياسة الدنيا بالدنيا، استناداً إلى قراءات المتن والوقائع الأولى؟
(أ)
لم يناقش كتاب ويستقلّ بتفنيد ادّعاءات ربط مفهوم الخلافة بالدين، كما قدّم الراحل علي عبد الرازق في مؤلّفه (الإسلام وأصول الحكم) المنشور سنة 1925، وهو المفهوم التقليدي الذي ضبطه بعض الفقهاء في غُرّة التأليف السياسي العربي - الإسلامي، ثمّ أحيت حركة (الإخوان المسلمون) هذا المفهوم عند تأسيسها، ليصبح المفهوم (وما زُعم أنّه شغور الخلافة) الهدف النهائي في مشروع الإسلام - السياسي ومقولاته، ومن أدبيات أيّ حركة وداعية إسلاموي؛ وللكتاب السبقُ في نقد المفهوم كجزء من صراع معرفيٍّ ووجوديٍّ كان يدور في حلقات الطبقات العربيّة السياسيّة والمثقّفة والحزبية عقب سقوط الدولة العثمانيّة وتضخّم مفهوم القوميّات في أرض الواقع كجزء من مفاهيم الدولة الحديثة؛ ونحن على تحفّظاتنا على الكتاب في جزئية مهمّة: هي تصوّره خلو الفترة النبويّة من وجود كيان ووحدة سياسيّة، فنحن مضطرّون لمناقشة حججه ونتائجه، حيث نرى أنّ نفي وجود كيان سياسي كان الحلقة الأضعف في كتابه، ممّا جعله ثغرةً ومأخذاً للقائلين بالخلافة الدينيّة، حينما أخذوا على الكتاب - المؤلّف رفضه وجود وحدة سياسيّة إلى جوار الدعوة الدينيّة، وتركوا بقيّة الحجج في مدنيّة ودنيويّة خلافة أبي بكر الصدّيق؛ حيث وضع تصوّراً رفض فيه أن يكون للنبي العربي عليه السلام حكومة دنيويّة منفصلة عن الدين أو غير متّصلة، ثمّ اعتبرَ خلافة أبي بكر الصديق خلافة زعامة لوحدة سياسيّة لم تكن موجودة في العهد النبوي.. وإنّه ليس من الصواب مناقشة الموضوع دون الوقوف عند ما انتهى إليه، وإعادة قراءته عملاً بقانون صلاحية القراءة وملاءمتها للوقت المعاصر، وتكملة ما وقف عنده وإظهار اختلافنا ونقدنا (للسبب: نفي وجود كيان سياسي دنيوي في العهد النبويّ)، وتأكيداً (للنتيجة: في ضبط مفهوم الخلافة أنّه مفهوم دنيوي وليس دينياً كما قدّمه الماوردي وابن خلدون ومن أخذ بهذا التصوّر؛ وهو الكتاب الذي عاصر مداولات ما يسمّى شغور الخلافة في بداية القرن العشرين، وكان جزءاً أصيلاً في المواجهات بين موقف الفقهاء التقليديّين الرافض للدولة القوميّة وبين زعماء ومثقّفين عرب طالبوا بها؛ وإذا كانت النتيجة التي وصل إليها بحثُ علي عبد الرازق: أنّ الخلافة محلّها الدنيا وليس الدين، فإنّه لم يمض في بحثه حول التشابه والتطوّر في شكل ومضمون الخلافة إلى شكل ومضمون الدولة ممّا أفقده تأصيل السبب لنتيجته؛ هل الخلافة شكل دنيويّن أشكال الكيانات السياسيّة، يوازي الشكل الدنيوي للإمبراطوريات مثلاً؟ وكلاهما مضى إلى زوال تحت شروط تطوّر الدولة الحديثة، تأثّراً بتغيّيرات فرضتها عوامل عديدة، توجز أنّها متطلّبات عصر العلم وتفريغاته.
(ب)
ما معنى الخلافة؟ كيف لكلمةٍ (خلافة كما هي - دون مشتقاتها) لم ترد في المتن القرآني أن تُحمّل هذا الكمّ الهائل من التقديس بوصفها أصلاً رئيساً في الدين؟ وماذا يمكن أنّ نفهم من دلالات الخلف والخليفة كما وردا في المتن القرآني على هذا الاشتقاق؟
* {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (30) سورة البقرة
* {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى..} (26) سورة ص.
* {وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} (142) سورة الأعراف.
إنّ الإنسانَ بالمطلق والعموم - لا بالتخصيص - هو خليفةُ اللهِ في الأرض وفقاً للمتن القرآني، وفي سورة البقرة نرى تأكيداً على أنّ وظيفة الخليفة ليست مرتبطة بوظائف دينيّة يعلمها الملائكة كالحمد وكالتقديس، فمسألة الخليفة غير مسألتي الرسالة والنبوّة؛ ففي آية 26/ص نجد قانون عموم وعام لوظيفة الخليفة وهي المتمثّلة بالحكم بين الناس بالحقّ وليس باتّباع الهوى، ونحن لا نرى في معظم الأمم، والذي لا نراه مرتبطاً بجماعة دون أخرى، بل هو مرتبط بالإنسان نفسه ووعيه، ومرّة أخرى لا نجد في الآيتين ما يربط الخليفة بتعاليم الديانات، بل هو مربوط بالدنيا وتسييس أمورها على مقتضيات مفهوم الحق والحقوق وليس على مفهوم الأهواء والباطل.
(ج)
هل الخلافة إذاً في محل الزعامة الإنسانية السياسيّة أم هي في محل النبوّة؟ هل هي في التشابه الوظيفي أم في التعاقب؟ (واخلفني في قومي، وخلف من بعدهم)... هل كان النبي العربي عليه السلام زعيم كيان سياسيّ يفصل بينه وبين نبوّته ورسالته، وهو التصوّر الذي لم يقف عليه علي عبد الرازق في مؤلّفه عندما نفى وجود كيان سياسي كجزءٍ من الدين أو بمجاورة الدين، والأصل في النفي لم يكن بالاستناد إلى الوقائع الماديّة التاريخيّة إنّما بالاستناد إلى علّة فكريّة، بدت منطقيّة في بناء إشكاليّاتها لكنّها لم تكن موجودة في الواقع التاريخي، والمقصد في العلّة الفكريّة - المعرفيّة: (كيف تكون خلافة لنبوّة؟) وليس الخليفة أبو بكر الصدّيق نبيّاً كهارون من موسى عليهما السلام (واخلفني في قومي وأصلح...) علماً أن النبي موسى وفقاً للمتون الدينيّة لم يُؤسّس كياناً سياسيّاً، بل قادَ قومه للخروج من الدولة والعيش في التيه، أو خارج المكان وعلى الرغم من ذلك كان لا بدّ من خليفة لإدارة شؤون القوم وعلاقاتهم؛ أمّا في المعتقد الإسلامي فلا نبيّ بعد النبي عليه السلام؛ وفي سبيل معالجة هذه الإشكاليّة لم يلتفت (المؤلّف) إلى ما يمكن أن يحلّها بوجود خلافة دنيويّة لخلافة دنيويّة، وهو ما تحقّق تاريخيّاً أنّ الخلافة - أو تحديداً لفظة خليفة - كانت لمحلّ الكيان السياسي، وأنها حملت دلالتها اللغويّة القرآنية قبل التأويل الدلالي لاحقاً عند ازدهار الفقه والتأليف السياسي، والتي يمكن رصدها في وقائع الفترة البكريّة ومنجزاتها الدنيويّة، فالخلافة محلّها الدنيا، فكما كان النبي خليفة المؤمنين يتولّى أمرهم وينظّم إدارة شؤونهم وتقلّباتها، ويخلفهم في زعامة التجمّع الجديد الذي حلّ محلّ التجمّع أو الانتماء القبائلي، ويخلفهم في فضّ منازعاتهم الخاصة وفقاً لشرائعهم، على أيّ ملّة كانوا: هوداً أو (نصارى) أو صابئة أو غيرهم، ودون هذا الابتداء في الكشف عن الكيان السياسي- العموميّ في الفترة النبويّة لا تصمد الحجج الرازقيّة في نقد مفهوم الخلافة أنّه جزءٌ من الدين وتأكيده أنّه مفهوم مرتبط بسياسة الدنيا بالدنيا؛ لقد كانت الإجابة على التساؤل الذي أثاره البحث موجودة في رفع الإشكال عنه: (كيف تكون خلافة لنبوّة؟) أنّ الخلافة لم تكن للنبوّة بل كانت للزعامة السياسيّة، فالمؤلّف بدلاً من رؤية دولة النبيّ الدنيويّة التي عليها وقعت الخلافة تحديداً، ذهب إلى نفي وجودها لكينفي الجمع بين السياسة والدين، لكنّه في حقيقة الأمر وقع في الجمع حينما نفى الدولة وراح يؤول العهد النبويّ على أنّه فترة استثنائيّة.
(د)
حينما نقدّم مفهوماً دنيويّاً للخلافة يستوعب التقلّب والمخاطر والخطأ والصواب والهزيمة والنصر فإنّما نعيدها إلى الإنسان، وإلى كونها شكلاً من أشكال الكيانات والوحدات السياسيّة قبل تطوّر مفهوم الدولة حديثاً، (فتكون الدولة الحديثة قد خلفت شكل الخلافة أو الامبراطوريات والكيانات القديمة) ونحن بهذا نقدّم مفهوماً دنيويّاً ضدّ مفهوم دينيّ - سياسي يختلقه الفهم الإنساني وليس يخالف الدين، فإنّما الأصل فيما نذهب إليه يُبنى على علّة في الواقع والتاريخ تجعل كُلّ طرفٍ يشتقّ من واقعه وصراعه على الواقع ما يؤيّد هذا الصراع أو ذاك؛ وتجعلنا نذهب في المفهوم على هذا الاستحقاق الواقعي.. فالقولُ بضرورة إقامة الخلافة هي مقولة تقفز على الواقع حينما ترى كلّ هذه الدول وترفض الاعتراف بأنّها تمثّل المفهوم المتطوّر للكيان السياسي، وأنّها الدلالة المتطوّرة من مفهوم الكيان المتعلّق بسياسة الدنيا بمتطلّبات الدنيا، وهو الواقع المتحقّق في وجود الدولة وليس خارجها، فدلالات الخلافة في النيابة والتمثيل متحقّقة في سلطات الدولة وأنظمتها وتشريعاتها وإدارة شؤون المواطنين، وليس الدعوة إلى إقامة خلافة إسلاميّة إلاّ أجندة سياسيّة هدفها أبعد من مجرّد معارضة حكومة تنفيذيّة أو نظام سياسي، إنّما هدفها الفوضى القادرة على تفتيت الدولة لأجل الخروج عليها وإقامة كيانات استبداديّة باسم الدين.
- جدة