أمل بنت فهد
لا يزال الحديث عن ضحيتنا الأولى مستمراً تلبية لرغبة القرّاء الكرام.. تلك الضحية التي كان لها فضل الخبرة التي كسبناها.. يوم كانت حقل تجارب بين أيدينا الجاهلة في أول تعامل لنا مع الجديد.. بإدراك منا أو نسيان مفتعل بقيت أثارنا عليهم تذكرهم بما نسينا.. وتلك الحسرة والغيرة التي تسحقهم لحظة يرون كيف تعاملنا مع من جاء بعدهم.. دون حياء منا والتفاتة حانية.. كان السؤال الأصعب كيف نعوضهم؟ كيف نشرح لهم هزيمتنا المخجلة؟ كيف نقول كنا نجهلكم ولم ندفع ضريبة التعليم التي سُجلت على حسابكم.. لتدفعوا ثمنها نيابة عنا.
ذاك الطفل الأول الذي لم يعرف حضن.. وذاك الشريك الأول الذي لم يلمس نشوة حب واحتواء.. وكل من سحقتهم خطواتنا الأولى المرتبكة.. وجرحتهم كلماتنا المجنونة.. ولم نتذوق معهم لذة الحنان والرحمة والتفهم.. كبروا وكبرنا.. وتركنا مع الماضي ملفات الألم معلقة.. ولم نجرؤ على فتحها.
بالنسبة للضحية الأولى عليه أن يفصح ويقول.. لكنه غالباً لن يتحدث.. لأنه مدفون تحت غضب متراكم على مدى سنوات ومواقف موجعة.. وفي كل موقف إنساني مع أقرانه يتضخم الغضب.. ويبقى مشرطاً عالقاً بين قلبه وضلعه.. يتنفسه وجعاً.. ويسكت عنه نزفاً.. وقليل من يستطيع أن يفجرها دون شظايا تمزق الروابط الباهتة.
أما نحن.. قبل كل شيء لابد أن نعترف لأنفسنا أننا قصرنا.. وكنا لا نعرف.. باختصار كنا نجهل.. ومن ثم نفتح مع ضحيتنا الملفات ونسألها عن مدى بشاعة مواقفنا.. ليتسنى لذاك الغضب أن يجد متنفساً ويخرج.. ستذهلنا الكلمات وتدهشنا حد البكاء والندم.. سنرى كيف كنا أغبياء وقُساة.. وكمية الحريق المكبوت الذي لم نستطع حتى الإحساس به.. وكاد أن يحرقنا جميعاً.. وسنعرف سر تلك العيون الهاربة من مجاهرتنا النظر.. وسر ذاك الانزواء الذي اختارته الضحية بعيداً عنا.. وكيف للفشل أن يكون نصيبها في علاقاتها وحياتها التي تهمنا كثيراً ولم نفهم أننا الداء والدواء.. سنفهم كيف خلقنا ساحة حقد وكراهية بين الأبناء.. وكيف أضحت تلك الأجساد باردة ومتيبسة في أرق المواقف وأكثرها شاعرية.. سنفهم سر التوتر الخفي الذي يتردد في مجالسنا معهم.. وسر هروبهم الأسرع كأنما يفرون من الجحيم.. فقد كنا الجحيم.
وأخيراً وبعد أن تعرف كيف جرحتهم.. سينزفون لآخر مرة بين يديك.. ومن مواطن نزفهم.. ستعرف ماذا يحتاجون تحديداً وليس ما تتوقع أنه يناسب أوجاعهم.. وإياك أن تبرر أو تدافع عن نفسك.. فقط اعتذر بصدق.. ومن ثم يأتي دور العطاء والتعويض.