د. محمد عبدالله الخازم
ضعف البعد المعرفي الثقافي في الدعوة، والإيغال في تبني الأفكار الأحادية وطرحها بشكل حدي وقاطع يأتي أحيانًا بدافع الحماس وأحيانًا بدافع (التجييش) وأحيانًا من منطلق ضعف لدى الداعية في معرفة مختلف الآراء والأفكار وأحيانًا خشية طرح الآراء المختلفة بجرأة. يخشون طرح الآراء المختلفة إما لضعف في استيعابها أو خوف من سطوة التيار وتوجهاته. هذا الأمر يقود إلى الوقوع في مأزق فكري ونفسي عميق، قد لا يستوعبه الجميع فيتشكل لديهم آراء أحادية متزمتة بالفكرة التي لقنت لهم، بغض النظر عن مصدرها وصحتها وملائمتها ووجود بدائل أو آراء أخرى لها. بل إن المأزق هنا هو الدفع للاختيار بين طرفي المعادلة إما القناعة بالفكر المتشدد أو الكفر به؛ التزمت الديني أو الإلحاد. نعم الإلحاد أو الفسوق يزداد طردًا بازدياد التشدد والغلظة في الدعوة والتطرف الديني. بمعنى آخر، التطبيق الدعوي الحاد يقود إما لاعتناق الفكرة المتشددة قناعة أو رغبة أو خوفًا من الشذوذ عن المجتمع العام وإما الذهاب للنقيض الآخر. يحدث ذلك لأننا نقضي على الوسط والاعتدال في أمور كثيرة في حياتنا. مفهوم الطبقة المتوسطة وتناقصها في المجتمع ليس مجرد فكرة اقتصادية، بل فكرية كذلك؛ يجب تنمية الطبقة المعتدلة فكريًا.
الدعوة الهادفة للحصول على التوبة وترك المعاصي، تستخدم ضمن أجندتها إستراتيجية إقناعية مفادها أن الغالبية غير مستقيمين وأن هناك فرقة ناجية أو أقلية محددة هي من يعصمهم الله من الخطأ ومن الكفر. لا تستطيع أن تقنع شابًا بأن يترك مباهج الحياة وما يفعله أغلبية الناس ويتقبل فكرتك المختلفة ما لم تصل به إلى القناعة إلى أن الأغلبية ليسوا على حق، بل وربما على ضلال، ومن ثم تجهزة بشكل مباشر أو بغير مباشر للقسوة على الآخرين أو عدم الاكتراث بأحاسيسهم حتى ولو كانوا الأكثرية. بمعنى آخر، من أساليب الدعوة غير الإيجابية تكريس فكرة أن الدولة غير صالحة وبأن أغلبية الناس على ضلال وبأن الكفار يسيروننا أو يتأمرون علينا وبأن مجد الأمة لا يعود دون تضحيات كبرى..الخ. يقسون قلب الشاب على أساتذته وأقاربه مخالفيه، على رجال الدين عبر تصنيفهم بأنهم علماء سلطان أو منافقون. يشككونه في مجتمعه، بأنه مجتمع وإن كان يصلي في المساجد إلى أن كثيرًا منهم منحرف عن اليقين ويرتكب المعاصي.. إلخ. لذلك، لا تبدو محاولة استعطاف الانتحاري بقضية الحفاظ على أرواح الناس وعلى مصالح الدولة والمجتمع ذات جدوى في مرحلة متأخرة من تطرفه وهو الذي ربما فقد احترامه لهم بشكل ممنهج عبر الدعوة المتطرفة والمتشددة...؟
لم أخرج عن موضوع الانتحار هنا، فوجود الصراع الداخلي هو البذرة الأولى للفكرة الانتحارية، كما شرحنا. وطالما فكرة الانتحار المجردة قد تؤدي للنار، فلِمَ لا يكون الانتحار وفق فكرة مريحة للذات وتنتهي بالجائزة المتوقعة، سواء المتوقعة في الآخرة وهي الجنة أو الجائزة المتوقعة في الدنيا بتحقيق انتصار على الأعداء، أيًا يكون الأعداء. حاولت إلقاء الضوء على أساليب الدعوة - من قبل الأفراد العاديين، المعلمين، من المرشدين، المشايخ، وغيرهم- وخللها في الأهداف والأسلوب وبالتالي إنتاجها للتطرف. ليس كل متطرف أو متشدد يتحول إلى الإرهاب، لكن الإرهابي سواء وصل إرهابه للانتحار أم لا، تبدأ صناعته من مدرسة التطرف الذي يتحول إلى عنف، لفظي وعملي، ضد الأفراد وضد المجتمع. الدعوة ليست جميعها سيئة وليس جميع الدعاة يهدفون لتشكيل أدمغة متطرفة، لكننا نحتاج لنقد أعمق لكيفية تحويل الدعوة إلى عنصر إيجابي في حياة الإنسان والمجتمع. نحتاج مراجعة أهداف ووسائل الدعوة وكيف يمكنها تخريج أناس معتدلين يؤمنون بربهم، لا ينوبون عنه جل جلاله في محاسبة وعقاب الناس، يدركون طبيعة العصر المتنوع الثقافات والحضارات والمعتقدات، فيؤمنون بحق الناس في الاختيار وتقبل التنوع في كافة أمور الحياة، بما في ذلك تنوع التفسيرات الدينية والتراثية والتاريخية.