د. محمد عبدالله الخازم
التوبة هي الهدف الأسمى و دائماً ما نردد بأنها تجب ما قبلها، لكن الواقع يشير إلى أنه مطلوب من الشخص التائب دفع ثمن أكبر لإثبات إيمانه والتكفير عن ذنوبه، لذلك نرى كثيرا من التائبين يتحلون أو يتمسكون بسلوكيات وممارسات أكثر بروزاً من تلك التي يتحلى الآخرون بها في إبراز تدينهم وفي حثهم الآخرين على التدين، إلخ. وقد تتجاوز تلك الإثباتات مجرد إعفاء اللحية ولبس الثوب القصير، إلى العمل على تغيير الغير والواقع بشكل يتجاوز النصح إلى العنف في اللفظ والفعل. أليس هذا ما نشهده من بعض دعاة النهي عن المنكر - بالمعنى العام وليس موظفي إدارة محددة. أحياناً يشعر المتابع بأن مبالغة الشاب (الصحوي) في تعنيف المخالفين له، أفراداً ومجتمعاً، لفظاً وربما فعلاً، تصل مرحلة أشبه بتفاخر الفرسان في القبيلة، والقبيلة هنا هي جماعة الأقران.. ليس جميع الفرسان هنا ينتقلون إلى فكرة العمل السياسي والعنف والإنتحار الإرهابي، لكن جزء منهم يدعم الإنتحاري معنوياً وربما مادياً، في الخفاء وفي العلن، كجزء من الاعتقاد أو الإخلاص في خدمة أهداف الجماعة. التوبة يفترض بها أن تكون أساسا من التحول نحو الأفضل، لكن السلبية تبرز في المبالغة في إثبات التوبة أمام البشر وللبشر وليس فقط في الممارسات الاعتقادية والتعبدية بين العبد وربه...
الداعية المتحمس دون وعي كاف بمعاني التوبة وضرورة عدم تحولها إلى حالة عدائية مع الأخر، لايعلم أو لا يتوقع أو لا يحفل بالنتيجة النهائية أو المستقبل الذي قد يقود إليه ذلك الشحن النفسي والعاطفي والفكري. بعضهم مدرك لأهدافه المتمثلة في دفع أولئك الشباب المضطربين إلى فكرة الجهاد والتضحية بالنفس في سبيل الأهداف السامية من وجهة نظرهم. وبعضهم أهدافه نبيلة في الدعوة، لكن ينقصه العمق المعرفي الذي يجعله مدركا إلى أي نقطة يمكن إيصال الشاب إليها من خلال توبته وهدايته المنشودة.
عنصر آخر يبرز في الدعوة، هو السعي لتحقيق أهدافها بهداية الناس والوصول بهم إلى مرحلة الإقلاع عن الذنوب والالتزام بالعبادات، بأسرع وقت ممكن، عبر التركيز على الجوانب العاطفية والنفسية وقليل من معلبات النصح والوعظ السطحية. وتنتقل السرعة ليس فقط في (هداية) الشاب بل وفي صناعة الواعظ/ الداعية منه، بحيث يصبح بين ليلة وضحاها شيخاً متصدراً يكفر هذا ويخطئ ذاك... السرعة تقود لعدم الاحتفاء بالتهيئة الفكرية والثقافية والمعرفية العميقة، وإهمال التدرج وفق منهج يعمق الإيمان والتوازن الدنيوي والديني لدى الأشخاص. في حالات كثيرة، يستعجلون المكافأة الدنيوية المختبئة في اللباس الديني- اجتماعية كانت أو مادية.
الفكر الديني والتعليمي المحلي قائم على الحفظ وليس التفهم والإدراك والتعلم والقراءة، ولأجل ذلك يلجأ لوسائل تسهيل مهمة الحفظ كالمختصرات الدينية أو الحفظ والتفسير الأحادي للقرأن والأحاديث. كثير ممن يتم التعامل معهم في هذا الشأن هم نتاج هذا التعليم الذي نتحدث عنه، فئة لا تجيد القراءة الواعية وتبحث عن المعلومة السهلة. لذلك رأينا التسجيلات الصوتية والمرئية والخطابة الشفوية الاكثر تداولاً وتأثيراً في الدعوة، بإعتبارها تتعامل مع جمهور شفاهي تم صناعته وفق تراتبية اجتماعية محددة و أحادية فكرية راسخة.
مصطلح المعرفي - الذي كررته- لا يعني كمية ما يحفظ أو يقرأ، وإنما مناغمة ذلك واستيعابه للمخزون التاريخي الديني والتراثي وتغيراته وظروف تنوعه مع التطور المعرفي والعلمي والتنموي والسياسي المعاصر. كما أن الدعوة/ الوعظ تعني المفهوم العام وليس التصنيف الإداري، سواء قام بها المعلم أو إمام المسجد أو استاذ الجامعة أو الداعية الموظف أو غيرهم، وسواء كانت بالطرق المباشرة أو عبر وسائل التواصل والإعلام المختلفة أوالمناهج الخفية، إلخ. مع التركيز على الأساليب التي تقود للتطرف والإنخراط في أعمال العنف بمختلف انواعه، بما فيها الأعمال الانتحارية..
يتبع