د. خيرية السقاف
قدرُ الموت حاصلٌ لا محال..
والمؤمن يرضى بقضاء الله في خلقه وإن كان نفسه، أو ابنه، أو أبيه..
وتتعدد أسباب الموت، فما كان قتلاً يستوجب دية قصاص، فالله تعالى قد أقرها في كتابه، والمتدبر في أمرها يعلم يقيناً أنها لردع العداوة، وكبح الجماح، وتعزير النفس، وتأديب الذات، والحض على التفكير في بلاغة الجريمة، وأثرها في نفوس الذوي، والمقربين، والمحبين حين يعتدى على أحدهم فيردى قتيلاً..، أما المقتول فأمره عند عفو كريم وعد بالجنان، وهيأ لها القلوب السليمة المطمئنة باليقين.
لكن «الدية» ليست للمتاجرة، ولا للإثراء، وإنما لتلك المقاصد الضابطة لشر النفوس، وبغيها حين انفلاتها عن الجادة..، وتفكرها في العاقبة.أو خطئها غير المقصود.
فكيف تحوّلت الديات إلى مبالغ تفوق قيمة قدرات الأفراد جميعهم، ليتحولوا إلى مستجدين طالبي مسألة، وتتحول أيديهم إلى صغرى لا تمتد لله تطلبه وتنظر عطاءه في غير حاجة إلا لله تعالى، بل تمتد للناس لحاجتها إليهم لإنقاذ خاصتهم القتلة، وتبالغ في طلبها لجمع التبرعات لهذا الغرض، ولإسداء المعونات، وتشتد أزمتها، وأوارها حين يقترب موعد القصاص، فيُحرج الكبير الذي يُلجأ إليه، ويتدخل بوجاهته المسؤول الذي يزج في المسألة، وتجتمع الأسر لتنفض جيوبها،، وتفتح البنوك حسابات لجمع دية المقتول التي في عنق القاتل..!!
أوَ هذا خلق التعامل البشري بين الناس الذي حض على الصبر، والاحتساب، والعدل، والكفاية، والعفو..؟
لقد غدت الديات ظاهرة غير صحية في مجتمعنا، إذ وصلت مبالغها إلى ملايين بل عشرات منها، وهذه الملايين ليست تأتي من القاتل، أو ولي أمره باقتدار، بل بذلك السلوك، وبهذه المسألة الاستجدائية المؤسفة..
إذن فإن الدية كقصاص رادع، مؤدِّب ليست في هدفها الذي جُعلت من أجله، بل هي للإثراء والمتاجرة بالقتلى في أصرح وصف، بما يشهده الواقع.
فلو أن الناس تمتنع عن المشاركة بأموالهم في هذا الشأن لارتدع الجناة، ولتفكَّر كلُّ معتد مليون مرة وتزيد بدلاً من مليون ريال وملايين عن الإقدام على جريمته،..
وإلا كيف إذن يُربى في المجتمع العاجزون عن كبح جماح عدوانيتهم..؟ إذ هم حتى في القيام بدفع حدِّ خطيئتهم يرفهون، ويأخذ الناس بهم نحو الخلاص على هذا النحو..؟
ثم هناك قتل غير عمد، ووقوع في زلته من غير قصد، فيتحمل صاحبه وأهله ذل السؤال لعصمة رقبته، مع أن الخلق الإيماني يكون بالعفو، ومن عفى عن أخيه ربح أجر الصبر، والعفو، وفي هذا آيات كريمة جليلة، وقرائن من سنن المصطفى عليه الصلاة والسلام، وفي نهج خلفائه رضي الله عنهم، ما يُعلم الناس بما يتضمنه من الحكم، ومن الشواهد ما يجعل كل متربح من قتل فرد في أسرته، ومثرٍ على حساب روحه يسأل نفسه: كيف تطيب لي هذه الأموال وهي قيمة روح غالية..؟
أوَ يكون الشعور بمكانة الغالي هو التمتع بديته ذات السقف العالي حد السَّفه..؟!
بلى إنه سفه بالأرواح المقتولة، وسفه بقيم التأديب والقصاص، وسفه بمقدرات الأفراد، بل بماء وجوههم..
مع أن هناك قلة ممن يأتي في اللحظة الأخيرة ويعفو..!
أتمنى أن يتم إصدار قرار ملزم من قبل ولاة الأمر بمنع دية لا تتجاوز ما تعارف عليه النظام، وقدره الشرع لها، وإن لم يستطع أحد أن يعفو فليجرِ أمر الله في خلقه، ففي القصاص حياة، ولعلها تكون في الآخرة عفوا، ومغفرة، وجنات إن عز الصفح في الدنيا من الناس،
ففي هذا كبح لشهوات الاستثمار، والمتاجرة بالأرواح.