د. خيرية السقاف
لعل أهم الدوافع عالية القيمة لدى من يلتحقون بسلك العسكرية بكل قطاعاته المختلفة ليس الإعجاب بالزي العسكري، ولا إغراءات مكانته الاجتماعية، وحصانته الأمنية، ومركزه الوطني، إنما الدور المتزيِّ بالواجب، والوطنية، والانتماء، والمسؤولية، والانغماس في التربة والهواء وعطر الشجر، وطوب الدور، وسور الحدود، وحنطة الوجوه، وبكاء الطفل، وآهة المريض، وضحكة السعيد، وراحة الكهل، وطمأنينة الأرمل...
حين يلتحق ابن الوطن بهذا السلك فلأنه قدَّم كل هذا قيمةً، وأثرَة عن نفسه، فجنود البلاد من تلفح الشمس وجوههم، وتحني الأثقال ظهورهم، وتشد المواقف أزرهم، وتتطلب الميادين أرواحهم، وتخلو من أجسادهم أسرَّتهم، وتفرغ من مائها كؤوسهم، وتتضور من أودها بطونهم، من يقدمون ابن الوطن عن أبنائهم، ويحمون أسوار المدن عن أسوار بيوتهم، ويُحرَمون وسن النوم لينام غيرهم, وينسون لذة الرَّفه في كبد اليقظة، ويستبدلون برد النعيم بوعورة الصهد, وشدو الراحة بقلق الانتباه،!!
هؤلاء حين يلتحقون بهذا السلك فلأنهم يحبون، وحبهم جما جما..
فهو في قلوبهم عالي النبض، شغوف التفادي، بليغ التعبير، جهوري الصوت،..
إذ ما الذي يعلو عن حب الوطن في النفوس ليكون الكلام عنه هو الفعل به غيرالوطن ذاته ممن هم جنود الوطن، ؟؟
فقطرة الدم في عروقهم ليست تفنى إلا ليعيش وطنهم..؟
وحين تعلو أصوات الراغبين في الانضمام لهذا السلك من شباب البلاد شمالها، وجنوبها، شرقها، وغربها فلأن ثمة نداءً خفيا يرتهج في جنبات النفس،..
فآهٍ لو أن كل من يتمنى أن يرتدي بزة المقاتل، والحارس، والمدافع، والأمين، يدرك أنه بإمكانه أن يفعل..!
فالجندي ليس هو فقط من يرتدي بزة العسكري بمختلف شاراتها، ومستوياتها، ومهامها..
إنهم هؤلاء الجنود في الميادين باختلاف أدوارهم يُعلمون كل الأفراد دروس الصدق، والفداء، والوطنية لتكون فعلا صادقا في اتباع النظام، وحماية القانون، واحترام الفروق، في قلم الكاتب، وفي خبر الإعلامي، وفي سهر الوالد، وفي عطاء المعلم، وفي العناية بالمريض، وفي الحفاظ على الجيرة، وفي الرحمة بالصغار، وفي التكافل مع الفقير، وفي توقير الكبير، وفي حماية باب البيت، وثغر الشارع، وفي الوعي بكل فعل يكون مردوده ثمرة في بستان، أو ظلا في زمهرير..
الوطن حين يصبح كل من فيه على أهبة رجل واحد لحمايته، والبذل له، وبنائه، والإخلاص من أجله، يصبح الجميع في سلك الجنود الذين يعسكرون في مضامير حبه، يكرون، ويفرون، دوافعهم عن انتماء صادق، ورسالتهم عن يقين واثق، وصوتهم تشدو به ريح تجوب أنحاءه ترتل درس الوفاء. فليس فقط يكون ذو البزة العسكرية وحده في الميدان، بل الميدان كله له في جسدهم الواحد بأعضائه.
فتعلموا أن تكونوا جنودا، وإن لم ترتدوا بزة العسكري،..
فلنحي جنود الوطن هؤلاء الذين أحبونا بحبهم الوطن عن أنفسهم.