د. عثمان عبدالعزيز الربيعة
قبل أن نعرف بماذا خرجنا يلزمنا أن نعرف بماذا دخلنا.. في وعينا وعاطفتنا تتربع قدسية الشهر الكريم فوق كل اعتباراتنا، صغيرنا وكبيرنا. أليس صوم رمضان هو الركن الثالث من أركان الإسلام؟ لذلك يبدأ الإعداد النفسي والروحي والبدني منذ دخول شهر شعبان، فيتداول الجميع التخمينات حول طلوع الهلال، وهل يكون شعبان 29 أم 30 يوماً.
ويمضى الشهر والناس في حال توقع وترقب وتلهف للصيام. وهم يعلمون أن التزاماتهم في العمل أو الدراسة ستكون أقلّ من المعتاد، وأن التزاماتهم الدينية ستكون أكثر من المعتاد، وأن نظامهم الغذائي سيتغيّر جوهرياً، وأن مكونات هذا النظام ليست في الغالب ممّا اعتاد عليه الناس في أيام السنة، وأنه لذلك يجب توفيرها بكميات تكفى مدّة الشهر قبل دخول رمضان، وقبل أن تنفد من السوق، بما يترتب على ذلك من تهافت على محال الأغذية وغلاء في الأسعار. يعتقد الجميع أيضاً أن رمضان هو الشهر الأنسب لإخراج الزكاة والصدقة؛ فيحسبون حسابها قبل دخول الشهر. ونعبِّر عن ترحيبنا بهذه المناسبة الدينية العظيمة بتبادل التهاني والأماني مع كل من نعرفه. ويحرص بعضنا على برمجة زياراته العائلية - خاصة لكبار الأقارب - أو قضاء جزء من الشهر مع والديه إذا كانا يقيمان في بلدة أخرى، أو الذهاب للعمرة، إن تيسّر ذلك. ثمّ يأتي الحسم بإعلان رؤية الهلال، فندخل معه في شهر الصوم مندفعين بما أعددنا له من عدة الشوق والإيمان من جانب، و(المشتريات) وبرامج الفضائيات من جانب آخر. ويستبشر بعض الصائمين ذوي الإيمان القوي بقدسيّة هذه الشعيرة وما يؤدونه من عبادة خالصة لله، ويتمنّون دوامها. كانت أمي - رحمها الله - وما أكثر مثيلاتها، ممّن يقولون بعد مضي ثلاثة أيام على دخول الشهر: «يا أسفاه! راح رمضان، الله يشرّفه». وحتى الذين يحسّون بالإحساس الذي يغالب كل من يبدأ مع شيء مختلف عمّا سبقه فإنهم عندما يقترب الشهر من نهايته يبدون الأسف على سرعة انقضائه، وكأنه لم يدخل إلا بالأمس. هل هذا نتيجة الاعتياد على نظام الحياة برمضان؟ أم هو الأسف على مغادرة الجوّ الروحاني الذي دخلوا فيه مع دخول الشهر؟ أم هو الحسرة على انقضاء الشعور بالسكينة والهدوء الذي كانوا يفتقدونه في شهور السنة الأخرى؟ (ولا تقولوا باستثناء شهر الإجازة، فهو لمن يسافر تعبٌ كله من يوم المغادرة إلى يوم رحلة العودة وما بينهما). أظن شعور الأسف خليطاً من كل ذلك، وليس بسبب الاعتياد وحده؛ فالجوّ الروحاني يحيط بالناس من جوانب عديدة: من عبادة الصوم في حد ذاته، من قراءة القرآن وصلوات التراويح والتهجد، ومن حرص أعداد أكبر من الناس على أداء الصلوات في المساجد، بل وحرص النساء على الذهاب ليلاً بمفردهن في أمان واطمئنان لأداء صلاة التراويح والتهجد في المسجد، وفي حرص القادرين على فعل الخير وإخراج الزكوات، وفي تطوع بعض الشباب للقيام بأعمال الخير مثل توزيع علب الإفطار على العابرين وقت الغروب. أما الشعور بالسكينة والهدوء فهو ربحٌ يجنيه المسلم من صيامه، حين يتولّد لديه الإحساس بأن شهر رمضان شهر إجازة حقيقية، حتى لو كان في عمل أو دراسة؛ ذلك أن تخفيف ساعات العمل أو الدراسة وبعض الالتزامات الاجتماعية والرسمية والأسفار، وتجنب الخصومات الشخصية.. كل ذلك يخفّف من الضغوط والتوترات النفسية التي تلازم الإنسان في حياته اليومية، ويتيح مزيداً من الوقت لاجتماع أفراد العائلة، كلهم على مائدة الإفطار وما بعد الإفطار، وعلى السحور (بدرجة أقل). وما يجمع أفراد العائلة فيه خير كثير، ولا يشذّ عن ذلك اجتماع حول التلفزيون لمشاهدة مسلسل تمثيلي جذاب بعد صلاة المغرب. وفوق ذلك فإنه يتيح مزيداً من الوقت للتمتع بالجوّ الروحاني؛ إذ إن المرء يشعر بالرضا والسكينة كلما أدّى شيئاً من العبادات غير المكتوبة. وما سبقت الإشارة إليه يمثّل الجانب الروحي والنفسي من الأرباح التي يخرج بها الصائم من شهر رمضان المعظم. وإن التفتنا للجانب الدنيوي سنجد أن هناك من يخرجون من الشهر رابحين أو خاسرين. الرابح الأكبر بدون شكٌ هم تجار التجزئة - وعلى الأخص تجار الأغذية والملابس والهدايا (بأنواعها) - والخيّاطون، ومن في حكمهم. ثمّ العمالة الوافدة التي لم تكسب فقط تخفيف ساعات العمل، بل أيضاً وجبة تفطير الصائم. ومن الرابحين أيضاً متلقو الزكوات والصدقات. أما الخاسرون فمنهم أصحاب الفنادق (بغير مكة والمدينة)، لكنهم أذكياء؛ إذ يعوّضون بعض خسارتهم بموائد الإفطار والسحور الباذخة. ومن الخاسرين (مجازاً) أولئك السعوديون الذين يعملون ساعات إضافية وطويلة لدى أصحاب تجارة التجزئة برواتب ومكافآت هزيلة على حساب حياتهم العائلية. وهناك أيضاً خاسرون صحيّاً، وهم أولئك الذين أسرفوا في أكل المقليات والحلويات الرمضانية، وزادوا على ذلك بالخلود إلى الراحة والجلوس الطويل أمام التلفزيون. أما الخاسر الأكبر - مادياً وروحانياً - فأخشى أن يكون من بعض شبابنا - خاصة من هم في إجازة دراسية أو بدون عمل - فهم يستمرون في لقاءاتهم المعتادة كزملاء أو أصدقاء، لكنها في رمضان تمتدّ لليل بطوله، وبعد السحور أحياناً، ثمّ يدفعهم تعب السهر إلى الاستغراق في النوم معظم النهار، حتى لقد دارت نكتة تقول: (فيما مضى كنا نحتاج إلى المسحراتي، وفي أيامنا هذه نحتاج إلى المفطراتي!).
ربما يكون لكلّ ما طرأ على الحياة في شهر رمضان المبارك من أنواع وسائل الراحة والاستهلاك والتسلية واللهو من النتائج أنها أضعفت تأثير المشاعر الروحانية في نفوسنا وعلى سلوكياتنا، بحيث نعود إلى حياتنا المعتادة بعد رمضان كما كنا قبله، إلا أن هذه الوسائل لم تهزم قدسية الصوم ولا روحانية الشهر في وعينا وعاطفتنا؛ إذ خرجنا منه ونحن نقول: ما أروع هذا الشهر الذي يبقى فاصلاً بين أشهر السنة بخصوصيّته المريحة للنفس والروح.