عبدالله بن محمد السعوي
ومع أنه عاش في سياق فقهي تشبع بمذهب مالك ولايرى للمذاهب الأخرى وضعية معرفية ترجحها للتصدر إلا أن ابن رشد مع ذلك لم يتماه مع تلك الأجواء الأحادية التي تعلي من مكانة الشرع المؤول وتجعله جنبا إلى جنب مع الشرع المنزل، بل اشتغل على معرفة عصره بمنهجية متجردة عارض جراءها التقليد المذهبي معارضة واسعة وكلما كانت الفرصة مواتية في «بداية المجتهد»أن يجهر بإدانته والترويج لكل مفردة دعمها البرهان وتشبعت بالمعقولية واصطف إلى حيثياتها الدليل.
رغم أن معالم الجغرافيا والظرف السياقي آنذاك كان مسكونا بالمفردات الواردة فى» المدونة»و»العتبية» إلا أن ابن رشد اتخذ منهما مسافة نقدية معقولة فتحرر من سلطتهما المعرفية ولم يجعلهما هما فقط معياراً للصوابية، وإنما حكم على المسائل الفقهية حكما ذاتيا يتكئ على فحص منطقها الداخلي وعبر آليات تؤكد أن ثمة أبعاداً فقهية أسست لفعل التفلسف عند ابن رشد، وأفصحت عن الفيلسوف الذي بين جوانحه والذي لم يكن بمقدوره الافلات وخصوصا في البدايات من تأثير شخصية «الغزالي» العلمية ولاغرو فـ»المستصفى» هو أحد الأوعية المعرفية التي شكلت عقلية الحفيد حتى اشتد عوده المعرفي,وأوقفته وعن كثب على آثار التفلسف وعن مدى ما يكسبه للفقه من قيمة جمالية وتماسك ممنهج.
النصوص الغزالية هي من ساهم في فتح آفاق ممارسة التفلسف عند ابن رشد كسلوك لم يكن له كبير صدى فى البيئة الفقهية آنذاك، ولذا تميز هذا العَلَم حتى أضحى محل حسد من بعض مجايليه, تميز عن الفلاسفة بتكوينه الفقهي المتجاوز وامتاز عن الفقهاء بما ينطوي عليه من بعد فلسفي عميق مكنه من تجاوز النقد السلبي إلى النقد السالب الذي يضيء ماهية النظر الفقهي ويرشد مشهده بسلب ما هو فاسد فيه من إخلاد الى الموروث وركون متزايد الى التقليد, والترجيح بغير مرجح, والانهماك في الحفظ الببغائي والاجترار الإمعي الذي لاينجح إلا في تشويه المعرفة وتكريس الطابع المذهبي المغلق ومصادرة الاجتهاد والذي سيمسي وضعه قلقا وشروط استنباته كادت تصبح ضربا من المحال.
وإذا كان «الباجي» يبالغ كثيرا في الاحتفاء بالمذهب المالكي والانفعال بمعطياته واستلهامه استلهاما خاصا دفعه الى التفاني في مناصرة خيارات «نجم السنن» وممارسة قدر من التجاهل لحجج المخالفين وتكلف الحط من قيمتها فإن ابن رشد - وعلى خلاف منهجيته في الفلسفة النظرية وذوبانه في النصوص الأرسطية!- كان ذا حضور استقلالي ولم ينتخب توجها مذهبيا يحاكم من خلاله خيارات الفقهاء بقدر ما كان ينحو منحى حياديا يتجاوز الأحادية وينتصر لكل مسلك فقهي له اعتباراته الدلالية، ولذا رأينا «بداية المجتهد» وهو الذي غلبت فيه «الدراية» على «الرواية» يتلون بألوان من المدارس الفقهية المتباينة متجافيا الانحباس في أتون المذهبية الضيقة التي لا تفضي إبان تضخم سطوتها إلا إلى ضمور البنية الفقهية وخفوت نفَسها المتسائل وحرمان المتلقي من تلك الفضاءات التي يتنفس فيها عبق المعرفة الفقهية المتنورة!