الأصل أنه كلما كان المرء أقرب إلى البساطة في نظام الوعي والبدائية في الخبرة، والسذاجة في الإدراك كان تعلقه بالأشخاص أكثر بل قد يصل إلى درجة أنه لا يقبل الأفكار إلا مجسدة في شخوصها وممثلة في رموزها. هذا هو الأصل حيث إن السطحية في المعرفة تجهض فاعلية الوعي وتربك مساره وتنقله من التعاطي المباشر مع الأفكار إلى التمحور حول الأشخاص والذوبان في كينوناتهم وعلى نحو يلغي الفرادة أو على أقل تقدير يقلل من إمكاناتها إلى أدنى حد ممكن.
وفي واقعنا الراهن بدأ يتوارى هذا الأصل وبتنا نرى كثيراً من الذهنيات تتشرب التقديس وتتشبع بمعطياته ولم يعد التقديس محصوراً على العوام وذوي المستوى المعرفي المنخفض فحسب إذ لو كان الأمر كذلك لهان الخطب وإنما الإشكالية الصادمة هنا أن التقديس بدأ يطغى على كثيرٍ ممن ينتسبون إلى المعرفة وقد يكون لهم إسهامات في الوسط الثقافي بل وقد يحتفون كثيراً بالموروث الليبرالي الغربي ويتعاطون معه بصورة موغلة في التبجيل!
ثمة عددٍ من الأصوات التي تدّعي الليبرالية - وأكرر، أنها تدّعي لأنه لا يوجد لدينا ليبرالي حقيقي في الداخل المحلي! - تلك الأصوات تتمخض لمشاغبة التراث والدخول في اشتباكات - عاطفية وليست معرفية! - مع تلك الخطابات التي تبالغ في تعظيم التراث ومنحه مرتبة القداسة، تلك الاشتباكات لو كانت متكئة على بعد علمي ونقد منهجي مؤصل ومستوفٍ لمحدداته الشرطية لكان هذا أمراً مستساغاً، بل إن نقداً من هذا القبيل هو مطلب نهضوي وشرط أولي للإصلاح لأن تقديس غير المقدس وإضفاء العصمة على من لم يتلبس باشتراطاتها ليس إلا خللاً في نظام الوعي وتضييقاً لآفاق العقل الذي يفترض أن يتحرر على قدر ما تسمح به المقتضيات النصية وعلى قدر ما تتيحه شروط الزمان والمكان.
لكن الإشكالية هنا لما ينبري هذا الصوت أو ذاك - مندداً وليس ناقداً!- بتلك الممارسات المقدسة للتراث ويحط من قدرها في الوقت الذي هو فيه يقدس تراثاً آخر قد غاب في لججه وإلى الأعماق! أي أنه يقع في الممارسة ذاتها التي يندد بها ويغرق في الماضوية ذاتها ويواقع المحذور ذاته الذي طالما حذر غيره منه! هنا الناقد والمنقود كلاهما شرح بالتقديس صدرا فهما غارقان في التراث، تائهان في سراديبه غائبان في دهاليزه، مغيبان في ظلماته كلاهما بات أسيراً لآفة التقديس وإن تباينت أشكاله!
هناك من لا يفتأ يندد بعملية (تقديس الأموات) ويرفع درجة التحذير من مثل هذا السلوك في الوقت الذي هو لم يجترح أفقاً بحثياً جديداً بل قد ابتلعته الفلسفة المترّثة وفني في الأطروحات القابعة في أدغال التاريخ حتى ولو كانت لا تتوفر على وزن نظري ثقيل!
هذا الصوت الذي يدّعي الليبرالية وقد يبشر بزمن ما بعد الحداثة لا يفتأ يندد بالطرح السلفي الذي يسرف في «تقديس الأموات» على حد تعبيره، إنه يستهجن هذا الاحتفاء بالأموات مع أنه في الوقت نفسه قد ارتمى في أحضان الموتى لا ينفك عن استحضار مشغولاتهم واستدعاء معطياتهم ليس المتن منها فحسب بل حتى الهوامش وهوامش الهوامش لها حظها الأوفى من التبجيل التقديسي المقيت الذي يرفضه بل وينفر منه كل عقل استشكالي حر يمارس حتى ولو أدنى درجات الفاعلية!
الليبرالي هنا - وهذا الوصف من باب التجاوز!- هو سلفي من جهة أخرى، فهو ينكر على الآخرين سلفيتهم مع أنه في الوقت ذاته ينطلق وفي كل أفكاره من هوية سلفية أخرى يتعذر عليه تجاوزها فضلاً عن التمرد على منطق وصايتها بل هو يربط فاعليته بالرجوع إليها وتمثل مقتضياتها! إذن هنا السلفية هي القاسم المشترك وإن تباينت طبيعة وملامح النفَس العام!
هناك من ينكر على مخالفه الاستشهاد بالأموات مع أنه في الآن ذاته لم يستطع الإفلات من قبضة الموتى بل هو يفنى في شخوصهم بل وقد يرفعهم إلى مستويات عليا ويضعهم في سياقات تأليهية تتقازم دونها إمكانات البشر!
ينكر على غيره الصدور عن أقوال الموتى مع أن أكثر هؤلاء الموتى «الموحدين» هم على الأقل قد يكونون من علماء الأمة الذين أضاءوا لها الطريق وصنعوا لها مسارات التقدم في الوقت الذي هو قد ظل وفياً لموتاه الذين كثير منهم هم ذوو نزعات إلحادية مدمرة ومع ذلك لا ينفك منخرطاً في سياقاتهم سجيناً لمعطياتهم من أمثال (مارتين لوثر) مروراً بـ(ديكارت وتوماس هوبز) إلى (جون لوك وكانط وهيغل ونيتشه) حيث يجري استدعاء هؤلاء الموتى وبصورة مكثفة وبتقديس منقطع النظير وبلغة وثوقية يقينية انغلاقية وبممارسة اجتراية تعد هذا التراث - وبرمته! - منبعاً شديد الفاعلية بل هو طوق النجاة المنشود والذي يجب أن يحكم نظام التفكير العام!
إن التقديس سرطان عقلي والحكمة ضالة المؤمن والمعرفة غايته والظفر بالحقيقة - أيا كان مصدرها- هو الباعث الأول على تَشكل الهَم البحثي لديه وليس ثمة إشكال هنا، وإنما منبع الإشكال هو الازدواجية في المعايير والتناقض الصارخ في مفردات كثير من أولئك الذين نسوا ما ذكروا به فسقطوا في مستنقعات التقديس المأفون للأشخاص وتصنيم البشر!
هذه الوضعية التقديسية - التي تتنافى حتى مع طبيعة التفلسف وتتناقض مع أبسط مقتضياته!- وهذا الفناء الذي لا تفتأ غزارته تتنامى في الرموز هو أمر بالغ الخطورة على مستوى الوعي وله تداعياته التقويضية التي يجهلها وأحياناً يتجاهلها كثير من أولئك الذين يعرفون نعمة التجرد ثم ينكرونها وأكثرهم الوالغون في ذلك عن سبق إصرار وتعمد!