في ثقافتنا العميقة تحضر النصوص بكثافة ملحوظة وتحظى بتوقير تبجيلي واسع النطاق وهذا هو ما يقلق تلك الأطروحات التي اتخذت من مناوءة النص لها منهجا يجري منها مجرى الدم حيث دائما يراودها شعور بالقلق المتزايد نتيجة لسعة حجم الحضور النصي سواء من حيث كونه فاعلا استراتيجيا مؤثراً في مكونات الخطاب النهضوي وتشكلاته وماهيته العامة أومن حيث كونه مفعلا كتجسيد مشخص له «ماصدقاته» على أرض الواقع وهذا هو ما لا يريده المروجون لشنآن النص والذين يعنيهم وبالدرجة الأولى تشكيل وعي فاقد لمقومات رشده بفعل انقطاع خطوط تواصله مع النص، هذا النص/ النقل الذي يراد له - هذا في أحسن الأحوال!- أن يظل في الهامش بل في هامش الهامش وبأحرف لا تكاد تُعاين بالعين المجردة ولذا فهم في سبيل ذلك لا يَكلّون من انتهاك أصول النصوص ومحاصرتها وسلبها مقومات فاعليتها ومطاردة تطبيقاتها والعمل على الحيلولة دون انفعال الوعي الجماهيري بمفرداتها كافة!
إن المعارف العقلية يتعذر عليها- كما تقرر «نظرية المعرفة النازلة» كما عند ابن تيمية - التحرك على وجه الاستقلال والاستغناء عن مضامين النص التي هي بطبيعتها من يؤسس للحقائق المعرفية إذ المستند الأساس والمرجعية النهائية للمعرفة هي مرجعية متجاوزة تتجاوز الإنسان وتتجاوز الطبيعة أيضا، إنها مرجعية نهائية تنتهي إلى الله جل في علاه خلافا لما تقرره الشبكة المفاهيمية المعتمدَة في المنظومة الفلسفية والتي أيضا توارد عليها رموز (الفكر الغربي الحديث حيث يتم تقرير أن «مركز الكون كامن فيه وليس متجاوزا له» كما يعبر (عبدالوهاب المسيري) في «إشكالية التحيز» وهكذا فالمنهج المعرفي هنا ووفقا لـ»نظرية المعرفة الصاعدة» هو امتداد فلسفي لما تواردت عليه التيارات الفلسفية الغنّوصية أي أنه مؤسس على التمحور حول الذات والتمركز حول معقولاتها بوصفها الأصول الكلية الأولية للمعارف وباعتبار العقل المجرد هو المظلة التي يفترض أن تنضوي تحت لوائها الحقائق الشرعية والمعرفية الأمر الذي أفرز تداعيات موغلة في السلب مثل التفسير الفلسفي للنبوة وأنها داخلة تحت إمكان البشر بل وذهب «ابن سينا» - كنتيجة لتلك النظرية! - إلى أنه يمكن الاستغناء بالقوة النفسية عن الله وبذلك «استغنوا عن دعائه وعن الحاجة إليه» (الصفدية ص193).
أيضا الآلية ذاتها كانت حاضرة الذهنية الكلامية كما يتضح جليا في التقريرات الأصولية في أصول الفقه كما عند (الرازي) حيث ينطلقون من أولوية هذا المفهوم «صعود المعرفة» مما يعني بالضرورة استقلال العقل عن النص وانعتاقه من كل سلطة بل وتصديره إما بشكل صريح كما في المنهجية الفلسفية التي تتبنى نظريات فلسفية كثيرة تقرر هذا المبدأ كما في تلك القصة الرمزية «حي بن يقظان» أو بشكل غير مباشر كما في الطريقة الكلامية حيث يتم أحيانا الاعتراف بمصدرية النص على المستوى النظري لكن يتم الاتجاه الى خيار استقلاليته على الصعيد التطبيقي، تلك المراوحة بين التنظير والتطبيق هي ما أسس لتك المشكلة الوهمية تعارض العقل والنقل!
إن البعد العقلاني المرتبط بالنص ارتباطا موضوعيا هو ذاك المؤصل بشرط المعرفة المتشبع بأدواتها التأويلية ولذا فهو يغوص في اعماق النص يحلق في فضاءاته يتخطى النمطية ويتجاوز التراتبية يمارس ألوانا من «الأشكلة» كما يسميها (القرافي) تلك الأشكلة التي تفتق له حجب المجهول وتمنحه القدرة على تعميق النظر وتجسيد الرؤية المقعرة، فهو يستصحب شرط العقلنة لكنه مع ذلك لا يقع في فخ التصدير للعقل على حساب النص كما (المعتزلة) ولا ينحو للاسترسال الوجداني المفرط على حساب النص والعقل، وتعظيم دور الكشف والإلهام والذوق والخيال والحقائق اللدنية كما في الطرق (المتصوفة) ولا ينكفئ على البعد اللفظي وظاهرية الدلالة وسلطة المفردة كما عند (الظاهرية) ولا يُغرق في التجريد ويستغرق في النظر مقابل إهمال البعد الروحاني كما عند كثير من (المتفلسفة) ولا يركن إلى لعبة «الظاهر والباطن» كما عند (القرامطة) تلك اللعبة التأويلية التي بدأت تدب الحياة في أوصالها مع الفكر التأويلي المعاصر وهذا بالمناسبة من أكثر ما يثير الاستغراب وذلك أن الاتجاه الفلسفي المعاصر مع أنه يعظم - نظريا- العقل والعقلانية إلا أن فيهم من يعلي من قيمة أهل الظاهر والباطن ويتعاطى معهم بعشق منقطع النظير فيحتفي بتقريراتهم ويتفاعل معها بطريقة إمعية مفتقرة لأدنى أدوات التفلسف كما في مؤلفات (عبدالرحمن بدوي) كـ(شخصيات قلقة في الإسلام) و(تاريخ الإلحاد في الإسلام).
إن استلهام أفق النص مطلب استراتيجي منهجي بالضرورة وذلك وفق عقلانية تتطلع الى الانضباط بالمعايير القرآنية التي تقرر بدهياتها الأولى ليس فقط ضرورة عدم التحرج من الحكم السماوي وتصورات الوحي بل وضرورة الاتصاف بقدر زائد على ذلك من خلال تجسيد ذلك الموقف الذهني المفعم بمشاعر الرضاء بمضامين الوحي ومقتضى الاستحقاقات النصوصية واستشعار أن المقام الإيماني الرفيع ييتعذر استكمال موجباته من غير تحقيق من اطات {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (65) سورة النساء. هذه الآية لمركزية محتواها ومحورية دلالاتها أكدت بألوان من الأدوات الالسنية كالتكرار والقسم وغيرها من أدوات التوكيد التي اسهب في تناولها الامام ابن (القيم) في (الصواعق المرسلة) كما هو معروف في مظانه.
- بريدة