م. خالد إبراهيم الحجي
إنّ الفساد المالي يعرف على نحو شائع بأنه إساءة استخدام المسؤولين للسلطات المنوطة بهم وتسخيرها لخدمة مصالحهم أو لخدمة معارفهم أو أقاربهم بصفة عامة على حساب المجتمع والوطن.
ومن أمثلة الفساد المالي الشائعة الهدايا الثمينة وما يسمى بالإكراميات والأتعاب والعمولات وابتزاز المواطنين لقضاء مصالحهم الضرورية في مؤسسات الدولة.
والرشاوى والمحسوبيات تلك التي تشمل دفع المبالغ النقدية أو أي دفعات أخرى للحصول على العقود سواء في القطاع الخاص أو العام، وفي الدول الديمقراطية التي يقوم نظامها على تعدد الأحزاب السياسية، يعتبر التمويل السياسي من الرشاوى الممنوعة التي يعاقب عليها القانون، والفساد وباء منتشر وموجود في جميع الدول بدرجات متفاوتة، وأعلى درجات الفساد خطورة وضرراً عندما يصبح تأثيره ملموساً على حياة عامة المجتمع والوطن فيؤثر على حالته الاقتصادية ويزيده فقراً إلى فقره، وهو المستوى الذي يصبح عنده الفساد سرطاناً متفشياً في منظومة التنمية الوطنية، ويقتات على موارد الدخل والثروات الوطنية.
ويمكن تقسيم الفساد المالي إلى ثلاثة أنواع:
الأول: الفساد المالي الثانوي:
وغالباً يوجد في الدول المتقدمة أو الغنية التي يكون الفساد فيها محدوداً ويقتصر على طبيعة بعض المشاريع، ولا يتعارض مع مصالح المجتمع أو الوطن خلال الحياة اليومية ولا يضر بها في الوقت الحالي، ولا يؤثر على رفاهية المواطنين في الوقت الحاضر، ولذلك فإنّ التأثيرات السلبية للفساد المالي في هذه الدول تعتبر ثانوية وأضرار الفساد المالي فيها ليست آنية، وإنما ستظهر بمرور الوقت في المستقبل، أو بمعنى آخر فإنهم يصدرون الفساد المالي إلى الأجيال القادمة التي ستعاني منها في المستقبل.
الثاني: الفساد المالي التراكمي:
ونجده في الدول الديمقراطية التي تدّعي النزاهة وتنعدم فيها الشفافية والمصداقية والمكاشفة مثل اليونان، حيث كشفت أزمات الإفلاس المتكررة التي ضربت اليونان مؤخراً أنّ سرطان الفساد المالي الذي تفشى في البلاد كان سبباً رئيساً في قيام البنوك المحلية والحكومة اليونانية الراحلة بتلميع وتحسين أرقام الميزانيات، لكي تستوفي الشروط الاقتصادية والمعايير الأوربية التي تؤهلها لدخول كتلة الاتحاد الأوروبي، وتحصل على مزايا استخدام عملة اليورو بدلاً من استخدام عملتها الدراخما، وقد جاء في تقرير البنك الدولي مؤخراً أنَّ انعدام الشفافية والمصداقية والمكاشفة وتفشي الفساد المالي في الباكستان، مع أنها دولة نووية، هما السببان الأساسيان اللذان يعوِّقان مسيرة التنمية فيها، ويمنعان البنك الدولي من منحها قروضاً، علماً بأنّ مؤشرات البنك الدولي مهما بلغت من الدقة فإنها لا تجسِّد بوضوح المعاناة والألم الرهيب الذي ينتج عن الممارسات الوحشية لأشكال الفساد المالي الذي استشرى في الوطن، وهذه الدول تفتقر إلى التشريعات اللازمة التي تضمن تحقيق الشفافية والمصداقية والمكاشفة وتطبيق مبدأ النزاهة على أرض الواقع.
الثالث: الفساد المالي المعقد:
ويكون في الدول الفقيرة والنامية لأنّ كل دولار تقترضه هذه الدول الفقيرة يجب صرفه لينتشل شرائح المواطنين المختلفة من مستويات الفقر المتفاوتة أو المختلفة، وقد سبق أن عبر رئيس مجلس الشعب المصري في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك عن درجة تفشي الفساد في مصر بالتعبير الشعبي المشهور (الفساد وصل للرُّكب)، ويرى بعض خبراء التنمية أنه لولا الفساد لكانت مصر لا تقل تطوراً وتقدماً عن كوريا الجنوبية، فعندما يتفشى الفساد والروتين والبيروقراطية في المجتمع يصاب المواطنون والمستثمرون الصغار بالإحباط، لاعتقادهم وتأكدهم أنَّ جزءاً كبيراً من رأس المال الذي يجب أن ينفق على أعمال التشغيل والصيانة، وكثيراً من الاعتمادات المالية لمشاريع التنمية والتطوير تتعثر وتُهدر، نتيجة لإنفاقها في الهدايا الثمينة وما يسمى بالإكراميات والأتعاب والعمولات وابتزاز المواطنين بالرشاوي، وغيرها من الممارسات غير الأخلاقية، وغيرها من صور الفساد المالي الأخرى مثل استغلال النفوذ أو إساءة استخدام السلطة لتحقيق المصالح الشخصية وكافة أنواع الابتزاز المتنوعة وأشكال الظلم المختلفة، إنَّ عدم المحاسبة الصارمة على الفساد المالي، تعتبر أحد أهم محفزات بقاء الفساد وانتشاره في المجتمع، لأنّ عدم المحاسبة على الفساد المالي وغياب التوعية في ورش العمل والندوات والمؤتمرات يلعب دوراً حاسماً في الترويج غير المباشر لانتشار الرشاوى، ويقاوم أي شكل من أشكال الإصلاح أو الاستثمار أو التنمية في المجتمع.
ومن أمثلة القائمة الطويلة للأضرار المترتبة على الفساد المالي: عيوب السباكة والكهرباء، وقصور أجهزة التكييف عن تلبية احتياجات المباني والعيوب الإنشائية والمعمارية وتهريب مياه الأمطار وتسربها، والشوارع السيئة التي تجمع مياه الأمطار والمحفرة وغير المعبدة، والفصول الدراسية ناقصة الكوادر التعليمية والمدارس غير المكتملة، والمستشفيات ناقصة الكوادر الصحية أو التجهيزات الطبية، وعدم وجود مواقف لسيارات المراجعين، وغيرها من المرافق الخدماتية التي لا تستوعب أعداد المراجعين لها، وباقي مرافق البنية التحتية الناقصة أو غير الملائمة، فانتشار الفساد المالي في القطاعين الخاص والعام يسبب بلا شك قلقا ًلجميع الشعوب، ويرجع انتشاره إلى أن الطرق المتبعة للحيلولة دون حدوثه أو لمنعه أو للقضاء عليه غير ملائمة بشكل عام، وغالبية المحللين والمفكرين والمصلحين يؤكدون ويتفقون على أن الفساد المالي يمثل مشكلة رئيسية ومعوقاً لمسيرة التنمية والتطوير في المجتمع، كما يعترف الكثير من هؤلاء المحللين والمفكرين والمصلحين، بأنّ المؤسسات والهيئات التي عملوا فيها تفتقر إلى سياسة واضحة أو صارمة لمكافحة الفساد المالي، فالدراسات الميدانية أظهرت أن معظم أنظمة مكافحة أشكال الفساد المالي المتبعة مصممة لتكون فعّالة ونافذة المفعول بعد اكتشاف حدوث الفساد المالي، بدلاً من تصميمها لتكون أنظمة ضابطة ورادعة لمنع وجوده من الأصل، لذلك فإنه من الأفضل الأخذ بمبدأ الوقاية خير من العلاج طبقاً للمثل الشعبي (درهم وقاية خيرٌ من قنطار علاج)، وبعبارة أخرى فقد أظهرت الدراسات الميدانية أنه على الرغم من أن الهياكل الإدارية المختلفة في القطاعين الخاص والعام تُظهر التزامها أو تزعم وتدعي تعهدها بمحاربة أشكال الفساد المختلفة، إلا أنّ غالبية المحللين والمفكرين والمصلحين يتفقون على أنّ كثيراً من تلك القيادات الإدارية الفعّالة في القطاعين الخاص والعام لم تعتقد أو تؤمن حتى الآن بأن مفهوم التوعية والإرشاد بمخاطر الفساد على مسيرة التنمية يعني ترسيخ مبدأ الشفافية والمصداقية والمكاشفة لتأكيد مبدأ النزاهة، لأنّ كثيراً من تلك القيادات الإدارية الفعّالة تكره مجابهة الفساد المالي وتتجنب تحديه وجهاً لوجه، خوفاً من أن يلحقها الضرر أو حرصاً على مصالحهم ومناصبهم، حيث إنه عندما يتم الكشف عن وجود بعض أشكال الفساد المالي في المؤسسات والهيئات تحت قيادتهم، فالكثيرمن تلك القيادات الإدارية تتستر عليه وتفضل أن يبقى التعامل مع الفساد داخل الردهات والدهاليز الداخلية بطريقة سرية، ويحرصون على عدم ظهوره أو خروجه إلى العلن حرصاً على سمعتهم ومناصبهم ومصالحهم، وتجنباً لأضرار فضائح الفساد المالي الذي سيلحق بهم.
الخلاصة:
إنّ المشرعين يواجهون اليوم تحدياً كبيراً في محاربة الفساد، مما يحتم إعادة صياغة الأنظمة والقوانين التي ترسخ مبدأ الشفافية والمصداقية والمكاشفة والنزاهة في الوسط الإداري لمنع الفساد قبل حدوثه وليس مجرد التعامل معه إن ظهر إلى العلن.