د. خالد محمد باطرفي
كان الملك عبدالعزيز يوصي أبناءه دائماً بالحفاظ على جسور الصلة مع مصر، يروي الأمير محمد الفيصل في مذكراته، كما أوصى الملك فاروق بأبنائه من بعده، بحسبان أن الملك المصري الشاب سيحافظ على عرشه لوقت طويل.
على أن انقلابا عسكرياً أطاح بفاروق وجاء بـ»الضباط الأحرار»، ووصل وفد منهم برئاسة الجنرال محمد نجيب ونائبه جمال عبدالناصر، لمقابلة الملك عبدالعزيز في قصره بالطائف، لطلب دعمه للحكم الجديد. الملك طمأنهم إلى حرصه على العلاقة الطيبة مع مصر، ولكنه أكد بأنه سيكون وفياً للملك فاروق وأسرته وسيرعاهم في المهجر.
العلاقات مع مصر مرت بمراحل حلوة ومرة. فخلال حكم الملك فؤاد، والد الملك فاروق، وفي أول موسم حج بعد دخول الملك عبدالعزيز للحجاز وتوليه مقاليد الحكم فيه، وصلت قافلة المحمل، التي تحمل ثوب الكعبة من مصر. وفي منى، قامت عزفت الفرقة موسيقى عسكرية مما أستثار العلماء والجنود السعوديين (أخوان من طاع الله) فطالبوا بإيقاف الموسيقى، ورفض المصريون، فقامت مواجهة أطلق فيها المصريون الرصاص وسقط عشرات السعوديين، وكادت أن تنتهي الأمور إلى ما لا يحمد عقباه، لولا تدخل الأمير (الملك) فيصل، نائب الملك في الحجاز، الذي هرع على ظهر جواده ليقف بين الطرفين ويعلن الهدنة. ثم يأمر رجاله بالإنسحاب ويقنع المصريين بوقف استخدام الآلات الموسيقية في البقاع المقدسة.
هذا الحادث أثر على العلاقات المصرية السعودية لفترة طويلة، فقد أصرت المملكة على عدم الحاجة لإرسال فرق عسكرية لمرافقة قوافل الحجيج، بعد أن أمن الحكم الجديد البلاد والعباد، وأصر المصريون على الاستمرار على ما اعتادوه من تقاليد.
بعد وفاة الملك فؤاد، 1936م، جاء رجل الأعمال المصري الشهير، طلعت حرب، إلى مكة، يحمل رسالة صلح وسلام مع القيادة السعودية، فرحبت المملكة بهذه البادرة، وتحسنت العلاقات إلى مستوى غير مسبوق. وقعت حكومة علي ماهر باشا أول معاهدة ودّ وصداقة بين البلدَين، في 16 صفر سنة 1355هـ - مايو 1936م ، وزار الملك فاروق المملكة فيما عرف بقمة جبل رضوى في ينبع عام 1945م، ورد الملك عبدالعزيز الزيارة، في 1946م، وهي الزيارة الرسمية الوحيدة التي قام بها العاهل السعودي خارج الجزيرة العربية، فيما قام بزيارتين عبر البحر للقاء الزعيمين الأمريكي روزفلت والبريطاني تشرشل قبيل إعلان انتهاء الحرب العالمية الثانية للتفاوض على مستقبل المنطقة والقضية الفلسطينية.
وبعد عقود، توترت العلاقات مرة أخرى نتيجة للتدخل العسكري المصري في اليمن، عام 1963، وانتهى الخلاف باتفاقية جدة التي وقعها الملك فيصل والرئيس جمال عبدالناصر، عام 1965م، وإن بقي بعض البرود.
بعد حرب النكسة، عام 1967م، وفي قمة الخرطوم، قادت الممملكة الدول العربية لدعم مصر ودول المواجهة، سوريا والأردن، فتحسنت العلاقات إلى حد كبير بين البلدين الشقيقين، وهي علاقة تطورت إلى مستوى التحالف بعد وفاة عبدالناصر عام 1970م، وتولي الرئيس أنور السادات الحكم. وقد أسفر هذا التعاون عن أول انتصار عربي على إسرائيل، في حرب رمضان 1973م.
مرة أخرى، أخذت العلاقات منعطفاً خاطئاً بعد الزيارة التاريخية التي قام بها السادات إلى إسرائيل وأسفرت عن اتفاقات كامب ديفيد، عام 1979م. وبعد عامين من ذلك الشرخ، تم إصلاح الجسور مرة أخرى في عهد الرئيس مبارك (11-2-1981م).
خلال كل هذه العهود، حلوها ومرها، لم تتأثر العلاقات التي تربط الشعبين على جانبي البحر الأحمر. فمنذ زواج سيد المرسلين محمد صلوات الله وسلامه عليه من أم المؤمنين، المصرية ماريا القبطية، رضي الله عنها، وفتح مصر التي أصبحت جزءاً من الخلافة الإسلامية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وثم الدولة الأموية والعباسية وحتى العثمانية، والصلة بين أهل بلاد الحرمين الشريفين وأهل بلاد النيل علاقة مصاهرة ومحبة وتعاون تجاري وعلمي وثقافي وتنموي.
واليوم يبقى هذا الحلف الدعامة الأقوى لبنية الأمة العربية، وفي قلب الأمة الإسلامية. وقد دعم الملك عبدالله مصر خلال الاضطرابات التي تلت ما يسمى بـ»الربيع العربي»، وموقف الملك سلمان ثابت وصلب مع القيادة الجديدة للرئيس عبدالفتاح السيسي، رغم محاولات وأماني أعداء الأمة وعملاء إيران في المنطقة. وزيارتي ولي ولي العهد، وزير الدفاع، الأمير محمد بن سلمان الأخيرتين لمصر، و توقيعه لإعلان القاهرة مع الرئيس المصري، بعث رسالة قوية للجميع، أن السعودية ومصر هما جناحا العالم العربي، وسيستمران في التحليق.
ويبقى دورنا في دوائر الثقافة والإعلام للمحافظة على هذا التحالف بممارسة التعقل والحكمة في الطروحات والتغطيات الإعلامية، بعيداً عن الاستفزاز والإساءة، واحتراماً للرموز والثوابت، وتوخياً لدرء الفتنة والفرقة والخلاف.