فيصل أكرم
طَفَت على سُطوح الوسائل الإعلامية الحديثة، في هذه الأيام، قصيدة اسمها (الشعر مع الله والذرّة) أو (بكَ أستجيرُ) لشيخ مصري - وقيل سوداني - اسمه إبراهيم علي أحمد بديوي (1903 - 1983)
وقد هالني تداول الشباب لها بتضخيم وإعجاب منقطع النظير، حتى وصفها أكثرهم بأنها أفضل قصيدة في (التوحيد) وفي التوجه إلى الله والتقرّب لرضوانه، وفي مخاطبة الله (عزّ وجلّ) على الإطلاق.
فليغضب من يغضب، أقول: هذه القصيدة فيها من الرداءة ما يشكّل خطراً على الشباب المندفع.. رداءة في المعنى ورداءة في المبنى.. وأخطاء لغوية.. وأخطاء عقدية.. وضعف فني.. وضعف بلاغي.. والأدهى من كل ذلك ما فيها من سوء تأدّب في مخاطبة الله تعالى.
لن أمارس دور الناقد هنا، ولكنّ طبيعتي الشعرية تحتّم عليّ أن أقول عن الشعر ما يجب أن يعرفه غير العارفين بطبيعة الشعر.. فالشعر إبداع يقترب من السحر، يتكوّن في ضمير الشاعر حتى يصبح قدره، وقد يكون لعبة خطرة لمن ليس هو بشاعر أساساً غير أنه يجرّب الشعر من أجل إعطاء موعظة أو نصيحة، تماماً كمن يجرّب الشعر في مديح أو هجاء وهو ليس بشاعر فنطلق على كلامه (شعر مناسبات) والواقع أنه لا شيء من الشعر ولا حتى المناسبات!
لن أنقل الكثير من أبيات قصيدة الشيخ بديوي رحمه الله، ولكن فقط أقارن بين قوله:
يا غافرَ الذنب العظيم وقابلاً
للتوب: قلبٌ تائبٌ ناجاكَ
أتردّه وتردّ صادق توبتي؟
حاشاكَ ترفض تائباً حاشاكَ
وبين قول شاعر حقيقيّ أبدع شعراً ماجناً في شطر من حياته، ثم حين اتجه إلى الله مخاطباً أبدع شعراً راقياً:
يا ربّ إنْ عظمتْ ذنوبي كثرةً
فلقد علمتُ بأنّ عفوكَ أعظمُ
إن كان لا يرجوكَ إلا محسنٌ
فبمن يلوذ ويستجير المجرمُ؟
بيتا أبي نواس، الشاعر العباسيّ الخالد إبداعاً في ذاكرة الشعر العربي، فيهما أساس ما اقتبسه الشيخ إبراهيم بديوي - وإن اختلفت القافية! - مع الفارق الشاسع بين رقيّ الأساس وتدني الاقتباس. فأبو نواس حين اتجه لله مخاطباً بالشعر كان في غاية الأدب مع الله.. كان يسأل الله: بمن ألوذ وأستجير ما دمتُ علمتُ بأن عفوكَ أعظم من ذنوبي كلها؟
بينما في بيتيْ بديوي نلحظ عنجهية لا تليق أبداً بمن يخاطب الله تعالى، فكأني به يخاطب نداً - استغفر الله لي وله - بما معناه: يا من تعطي.. ها أنا جئتكَ - صادقاً! - أطلبُ، فهل تردّني؟ لا.. لا.. لن تفعل!
ومقارنة أخرى وأخيرة:
يقول أبو نواس:
أدعوكَ ربِّ كما أمرتَ تضرُّعاً
فإذا رددتَ يدي فمن ذا يرحمُ
ما لي إليكَ وسيلةٌ إلاّ الرَّجا
وجميل عفوكَ ثمّ إني مسلمُ
ويقول إبراهيم بديوي:
ربّاهُ ها أنا ذا خلصتُ من الهوى
واستقبلَ القلبُ الخليُّ هواكَ
وتركتُ أنسي بالحياة ولهوها
ولقيتُ كلَّ الأنس في نجواكَ
الشعر موهبةٌ، وتجربةٌ، وفكرٌ، وإحساسٌ، وإبداعٌ لغويٌّ.. وقد بدا كلّ ذلك واضحاً في قصيدة أبي نواس، صاحب التجارب المعروفة مع الحياة في لهوها وأنس لياليها.. وهذا لا يصادر حقّ أيّ شاعر يأتي بعده ويسير على نهج منحى من مناحيه الشعرية؛ غير أن المثير هو اعتبار الكلام العادي الذي يصل لدرجة من السطحية لا تليق بعمق الفكرة في التوجه إلى الله بشعر.. والشعراء لهم في القرآن الكريم سورة؛ ما يدعونا إلى التأمُّل ألف مرة قبل البدء في (النظم) الذي يراه عددٌ لا يستهان به من الشباب العاميّ قمّة الشعرية في الدعوة إلى الله. والله لم أنقل من قصيدة إبراهيم بديوي سوى أجمل أبياتها ومع ذلك تسقط رديئةً إذا ما قورنت بقصيدة أبي نواس التي لا تخفى على أحد أنها أساسٌ اقتبسه بديوي بداية من (بكَ أستجيرُ) غير أنه لم يرقَ إلى شيء من الإبداع الأساس.. ولا ضير في ذلك إن كان هذا كل شيء، ولكن.. في قصيدة إبراهيم بديوي - غفر الله له - أشياء تدعو إلى الإحباط من الحياة والعلم وتحرّض على اليأس من كلّ حياة وتحطيم الدنيا بكل ما فيها ومن فيها، والكفر بمستقبل الخير لها والسخرية من كل إنجاز يتحقق على أيدي العاملين عليها؛ وهذا يتعارض مع كينونة الحياة وما عرفناه عن حكمة الله في تكوين كل شيء. ففي القصيدة من هذا الكلام: (يا رب هذا العصر ألحَدَ عندما، سخّرت يا ربي له دنياكَ.. ما كان يطلق للعلا صاروخه، حتى أشاح بوجهه وقلاكَ) ثم تدخل القصيدة في صف طويل من الأبيات المتبلّدة التي لا تقول شيئاً سوى (قل لكذا وكذا: من جعلك تصبح كذا وكذا)؟!
الدنيا تعجّ وتضجّ بالشعر بالرديء، وبكل الأشياء الرديئة، تلك طبيعة الدنيا ولا أتعجب من ذلك أبداً؛ ولكنّ تعجبي الذي دفعني لكتابة هذه المقالة انبعث من تهويل الشباب اليوم وتعظيمهم لأنشودة المرحوم إبراهيم بديوي لدرجة يُخشى معها الإيمان بكل ما فيها من رصف كلمات تحرّض على ترك الحياة تركاً انتحارياً مدمّراً للكون بمن فيه، كهذا الهوس الذي ابتلينا به يتزايد يوماً بعد يوم في تحطيم وتحقير كل جمال للحياة. وحسبنا الله.