عبدالعزيز السماري
بدأت ظاهرة العنف السياسي تتجه إلى الإقصاء التام والإلغاء للمنافسين، فقد أصبح الاغتيال السياسي والحروب الأهلية تطغى على المشهد العربي، ومهما حاول الإقصائيون من كلا الطرفين إلغاء الآخر، لن يقدروا، فالسياسة عالم متغير، ويستطيع المعارض مقاومة التغيير، والخروج بوجه جديد، وقد يلجأ للمقاومة العنيفة وتفجير البلاد، وتبرير القتل من أجل البحث عن مكان له في الساحة.
ما يحدث في بعض الدول العربية هو صراع على السلطة تختفي خلفه أيديولوجيات متطرفة في مصالحها، ويعتمد بعضها على التفسير الديني للدولة، بينما يبرر الآخرون إقصاءهم للإسلاميين للمحافظة على الدولة المدنية، والتي تمنع تسييس الدين لبناء دولة المؤمنين والذميين، وتلك مفاهيم لم تعد صالحه في زمن وصل فيه العالم إلى حقوق الإنسان بغض النظر عن خلفيته، وإذا كان الربيع العربي مبادرة شعبية عفوية ضد الجوع والاستبداد، فإن الصراع الحالي هو نتيجة لاختلاف عنيف بين النخب في المجتمع.
بيت القصيد في العنف السياسي الحالي هو النخب، والتي تحاول بعضها الانفراد بالمجد، ولكن من خلف الكواليس، واحتكار بناء الدولة من خلال اللجوء إلى ديكتاتور يفرض كلمتهم بالقوة، ومن أجل الوصول إلى ذلك يتم استغلاه لإقصاء الآخر ونفيه، إما بقتله أو إلغائه باحتجازه بعيداً عن المشهد السياسي، وستظل الجماهير في ظل هذا الصراع خارج ميدان اللعبة، ومجرد أدوات تتحرك حسب إشارات النخب المنتصرة، وقد تدفع الثمن غالياً في حال حدوث الفوضى في البلاد، بينما سيجد النخب طريقهم إلى الخارج في أقرب طائرة.
حسب روستو تنشأ الديمقراطية عندما تقبل النخبة، إما بالتدرج أو عند مفترق تاريخي، مبدأ التعددية السياسية، لكن النخب قد تخفق في اللعبة كما حدث كثيراً في التاريخ العربي الحديث، فقد أجاد بعضهم أداء قواعد اللعبة خلف الستار أو ممارسة الأدوار خلف عسكري يتقن فن إطلاق الرصاص من بندقيته، وكانت النتيجة أن انقلب عليهم، ثم أفناهم عن بكرة أبيهم، ولنا في تاريخ العراق وليبيا ومصر العبر والأفكار.
ثقافة الانقلاب العسكري سياسة يجيدها العسكر وتخسر فيها دوماً النخب، ودائماً ما يلجأ العسكري إلى الخارج لترتيب سيطرته على البلاد، وقد يستخدم شتى وسائل الابتزاز والدجل السياسي من أجل الدعم المادي، ولعل القاسم المشترك في البلاد التي حكمها العسكر أن تولدت ثقافة ضد التعدد السياسي والديموقراطيه، وسمتها الابتزاز والانقلاب العسكري المتوالي، ولذلك تحتاج الديموقراطيه إلى ظروف غير عاديه من أجل اللجوء إليها.
في سوريا، بدأت الانقلابات بحسني الزعيم، ثم استمرت بمعدل انقلاب لكل ستة أشهر، وفي مذكرات مايلز كوبلاند ذكر إن أمريكا هي التي رتبت انقلاب حسني الزعيم، وهذا أمر اعتادت عليه الأمم، فالانقلابات برمتها من ترتيب أمريكا، وارجعوا إلى تاريخ أمريكا الجنوبية، واستمرت الانقلابات في سوريا حتى جاء الأسد، ومنذ ذلك التاريخ، توقفت الانقلابات، وفي العراق بدأت الانقلابات بعبد الكريم قاسم سنة 58، وفي كل من سوريا والعراق تراجعت مساحة الحريات وحقوق الإنسان وكرامة المواطن في ظل حكم العسكر.
وفي مصر بدأ انقلاب العسكر على الحكم الملكي حكم فاروق المرتبط بالإنجليز سنة 52، وهو الانقلاب الذي قاده محمد نجيب ثم اختطفه منه جمال عبدالناصر، واستمرت هيمنة العسكر إلى جاءت ثورة 30 يناير، وكان مشهداً تاريخياً ظهرت فيه أسباب فشل الثروات في البدء بسبب اختلاف النخب، والذي كان يدور حول أسلمة أم مدنية الدولة، وكأن الأمر لم يُحسم بعد في العقول، وكان الحل العودة إلى دائرة العسكر، وقبول التغيير من خلال سياسة الانقلاب، ويظل السؤال الأكثر حيرة، هل كان لأمريكا دور في ذلك أم أن النخب أطلقت الصراع الذي انتهي إلى انقلاب.
كانت هذه مقدمه طويلة وربما غير مبرره، لتوقفي وذهولي بعد قراءة خبر عن مناسبة رسميه جرت خلال الأسابيع الماضية، لجمع تبرعات للحوثيين في ندوة «أوقفوا العدوان على اليمن» بالقاهرة، وفسح المجال لميليشيات الحوثيين إلى جمع تبرعات، وما حدث بعد ذلك من هجوم إعلامي غير مبرر على الوطن، وتنطبق هذه الحادثة على ظاهرة طبيعيه يمر فيها الإنسان أحياناً، هي «رأيته من قبل، أو شوهد من قبل «أو deja vu».
وهي كلمة فرنسية يتم استخدامها للوصف الطبي لتلك الظاهرة، ويصاحبها الشعور بالرهبة من تكرار تلك التجربة التي مر بها الإنسان أو الوطن من قبل، وسياسة الابتزاز ليست جديدة على الأنظمة العسكرية، ويتم استخدامها تكراراً إذا نجحت، وقد شهدنا أحداثاً مماثلة من عسكر سوريا وليبيا والعراق، فهل يتكرر الوضع مع العسكري الذي لا يجيد إلا ثقافة الابتزاز أو إطلاق الرصاص بعد أن أجاد في إقصاء النخب من الطرفين بسبب غبائهم وقصر نظرهم..؟.
حماك الله أيها الوطن من أعدائك أينما كانوا، وحيثما حلّو على ترابك الطاهر.