د.عبد الرحمن الحبيب
مصارعة الثيران عادة قديمة تبدأ بإطلاقها من حظائرها للشوارع، ويجري الناس حولها مراوغين يتحاشونها، حتى يصل أقواها لحلبة المصارعة لتتم مواجهته الحاسمة مع المصارع المحترف. الموت نهاية مؤكّدة للثور إنهاكاً من تراكم الضربات حتى لو فشِل المصارع «الشجاع»، ليقوم الجزارون «غير الشجعان» بتقطيع لحمه للبيع..
هذه الرياضة الخشنة تمثّل حالة تُحفز إنسان الصيد القديم لتغلب الإنسان على الحيوان.. تغلب العقل على العضلات. داعش يبدو الثور الأهوج بين هيجان التنظيمات في فوضى ساحات سوريا والعراق متوجهاً بلا منافسة نحو حلبة موته، لكنه لا يزال يضرب بقرنيه مستحوذاً على المشهد. فمن هو المصارع الذي سيواجهه في الحلبة؟ هل هو التحالف الدولي بلعبة الإنهاك البطيء أم أن ثمة مصارع حاسم لم يظهر بعد؟
اللاعب التركي مصارع عتيد لكنه تجنب مواجهة الثور على طريقة المثل الشعبي «وش يدري الثور إني عنتر!؟»، خارجاً من الصراع وليس خارجاً من مشهده.. تاجر سياحة، يوفر المشروبات والترمس للمشاهدين.. ثم صار يبيع الأعلام الحمراء للمتحرّشين بالثور والعلف للثيران، ويجني ذهباً، حسبما يظن.. ولأن الثورَ أهوج، توجه بقرنيه نحوه! صار المشاهدون يحدقون في التركي كمصارع للثور، فماذا سيفعل؟
ماذا فعل أصلاً؟ «شهر عسل» طويل ومرّ كالعلقم، فترة تآلف محرجة ومتناقضة لتركيا علمانية مع تنظيم ديني حاد التوحش، متأرجحة بين حركة مقاتليه المقززة وحركة أمواله المغرية؛ بالمقابل داعش لم يمس تركيا بضرر حتى أن الأسرى الترك كانوا وحدهم من ينجو من القتل ويعادون لبلادهم معززين مكرمين.. كأن هيجان الثور الداعشي يخمد إنهاكاً لالتقاط العلف التركي..
تركيا لم تدعم داعش عن قصد، بل كانت تظن أنها تبيع وتشتري، ولا تريد المواجهة معه وفتح جبهة صراع جديدة قد تتلف اقتصادها السياحي فيما لو ناطح الثور السياح؛ إنما غض الطرف عن فصيل معارض في مواجهات عسكرية مختلطة مقابل ضرب فصائل أخرى يعني عملياً مساندته لا سيما ضد الأكراد.. لكن داعش كأي ثور أرعن لا يعرف صاحباً، فقد هاجم الجميع سواء من غض الطرف عنه أو من سانده.. فالجميع من منظوره الثوري (بفتح الثاء أو ضمها، لا فرق) أعداء حتى التنظيمات الجهادية التي ساندته..
ليست تركيا وحدها من غض الطرف عن داعش، فالحكومات الواقعة مباشرة في حلبة المعارك العسكرية في سوريا والعراق مارست في بعض الفترات تحاشي داعش أو ربما دعمه لأغراض تخصها كإخلاء مدينة بحجم الموصل بغمضة عين مع عتاد بالمليارات. تلك أحد عناصر القوة التي أدت لتنامي داعش سريعاً.. إنه الثور المتروك في الساحة والمتوجه إلى حلبة حتفه..
ففي بداية صعود داعش كان النظام السوري يواجه كافة أصناف المعارضة المسلحة عدا داعش، بل ويمده بمعونات، إلى أن تغيّر الوضع عندما شكل داعش خطراً مباشراً عليه. ومشابه لذلك يمكن القول مع بعض التعديل والتخبط عن النظام العراقي. أيضاً، كانت أمريكا تتجاهل داعش إلى أن تمدد نحو الأكراد حلفائها الإستراتيجيين وتبعها بذبح الأسرى الأمريكان.. ثم جاء الدور على تركيا..
المشترك بين هذه الحكومات أنها ترى الخطر الأكبر من عدو آخر غير داعش.. النظام السوري كان يراه في المعارضة المعتدلة.. ومشابه لذلك النظام العراقي الواقع تحت النفوذ الإيراني؛ والأمريكان كانوا يرونهم في تنظيم القاعدة.. والأتراك يرونه في الأكراد.. بينما كان يُنظر لداعش على أنه تنظيم هائج يحارب الجميع بلا رؤية سياسية وسيسقط حتماً عاجلاً أو آجلاً.. وسيباع الانتصار عليه في السوق السياسية كما يباع اللحم في مصارعة الثيران..
الآن اكتملت حالة انتهاء غض الطرف عن داعش، أو تحاشي مواجهة الثور الهائج.. فهل فعلاً على أرض الواقع أنهت هذه الحكومات حالة غض الطرف عنه وصارت تواجهه بشكل حاسم؟ هل بدأت المرحلة النهائية لضرب الثور؟ في أوقات مختلفة، عندما أعلنت هذه الحكومات الحرب الضروس على داعش تبيّن أنها دعائية أكثر منها عسكرية، إذ سرعان ما خفتت وعاد نوع جديد من غض الطرف عن داعش.. نوع قائم على مواجهة محدودة ضد داعش هو غالباً لتحسين المواقع وليس للحسم. لماذا؟ لأن كل طرف يبدو أنه ينتظر الأطراف الأخرى لتحمُّل الثمن الباهظ عند المواجهة الحاسمة مع الثور الهائج..
كأن كل حكومة من هذه الحكومات تقول: طالما أن داعش سينهار حتماً مثل أي ثور في المصارعة، ولا يشكل خطراً إستراتيجياً على المدى البعيد، فلماذا نتكبد الكلفة العالية للمواجهة الحاسمة.. الانتهازية السياسية تقول دع الآخرين يقومون بذلك، وإن أمكنك فاستغل الحالة الفوضوية اقتصادياً (بيع الترمس) وتفرّغ لمواجهة عدوك الإستراتيجي...
المفارقة هنا أن ذلك يطيل أمد الصراع مع مزيد من الأزمات لكافة بلدان المنطقة.. فالوقائع لا تظهر أن سقوط داعش وشيك، لقد تحول الثور إلى سرطان.. الأمريكان كانوا يقولون عند بداية هجماتهم الجوية إنها ستستغرق بضعة أشهر لسحق داعش.. ثم قالوا إنه يتطلب ما بين ثلاث إلى خمس سنوات.. الآن يقول أحد الجنرالات الأمريكان إن ذلك يتطلب ما بين عشر إلى عشرين سنة؟ بل إن أحدهم (المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية) يقول: «إن المنطقة ستبقى بحالة عدم استقرار في السنوات العشرين أو الثلاثين القادمة..»
ماذا عن الدول الأخرى؟ أغلب الدول العربية كالسعودية ومصر وتونس تقوم بحرب لا هوادة فيها ضد داعش لكنها ليست في المناطق ذات المواجهة العسكرية المباشرة معه لحسم المعركة، بينما دول كإيران تدعم سلوك النظامين السوري والعراقي المتهالكين. الحسم عند من يواجه داعش في المناطق التي يسيطر عليها، إضافة لأمريكا (الشرطي الدولي). والحالة حتى الآن غير مشجعة، فهل دخول تركيا سيغيّر مسار الأحداث؟
انقلاب الموقف التركي تجاه داعش ربما سيسرع في تحجيمه لكن ليس في سحقه، فالمصارع التركي لا يبدو أنه يدخل بجدية حلبة الصراع الحاسم ضد داعش، فتركيا تواجه خيارات متشابكة والأولوية لديها لا تزال في مواجهة التنظيمات الكردية، ومواجهتها الحالية لداعش تشير إلى أنها ستلحق بالركب الذي ينتظر الآخرين للمواجهة الحاسمة مع داعش.. فالمصارع التركي سيستخدم مهارته لمحارشة الثور الداعشي خارج الحلبة.. ينهكه لكن لن يُجهز عليه..