د.عبد الرحمن الحبيب
عواقب ديون اليونان تهز أوروبا وتقلق العالم.. حتى سوق الأسهم لدينا تأثر به، فحكاية قروض الإنقاذ التي يقدمها الاتحاد الأوروبي لليونان من بضع سنوات صارت ككرة الثلج كلما قدمت مساعدة لحل مؤقت من أجل أن ينهض الاقتصاد اليوناني يتردى الوضع أكثر..
تراكمت الحكاية فصارت ملحمة يونانية جديدة لكنها مالية.. الديون على اليونان وصلت إلى أكثر من 267 مليار يورو، (حسب صندوق النقد الدولي) تتصدرهم حصة ألمانيا (68.2 مليار يورو) ثم فرنسا (43.8 مليار يورو). من هذه القروض هناك 227 مليار هي ديون إنقاذ من الاتحاد الأوروبي الذي - عبر الجهات الدائنة - يطالب اليونانيين بإجراءات تقشفية قاسية من أجل مساعدتها ببرنامج إنقاذ مالي جديد، مطالباً بفرضها على اليونان.
الدائنون وفي مقدمتهم ألمانيا يقولون تلك أموالنا ومن حقنا أن نطلب استعادتها أو فرض شروط صارمة لوضع برنامج مساعدات جديد. وإذا كان اليونانيون غاضبين من شروط الاتحاد الأوروبي على اليونان لإجراء تقشف باعتبارها قاسية وظالمة بل وإرهابية كما سماها وزير المالية اليوناني، فإن بعض الألمان يشكون من أنهم يعملون بجهد كبير بينما اليونانيون يعشقون الاسترخاء على شواطئهم الدافئة (كسالى) يمضون أوقاتهم بالترفيه والتسلية أكثر من العمل؛ بينما يقول آخرون إن السبب الرئيس لما حصل لليونان هو الفساد المالي والإداري والاقتصادي.
بعد رفض اليونانيين في الاستفتاء العام لشروط الاتحاد الأوروبي تبدو اليونان أقرب من أي وقت مضى للخروج من منطقة اليورو، مع استمرارها عضواً في الاتحاد الأوروبي. فما هي حكاية الهلع من هذا الخروج أو ما هي النتائج المتوقعة من خروج اليونان من منطقة اليورو؟ أفضل من بسط الإجابة بطريقة سهلة جداً وعلى خطوات واضحة هو تقرير دوتشه فيله (أندرياس نيوهاوس وآنا فيلس).
خروج اليونان من منطقة اليورو سيتبعه إلغاء اليورو كعملة رئيسية والعودة للدراخما اليونانية. ستخسر الدراخما أكثر من ثلث قيمتها في البداية، ثم تخسر بنسبة أكبر فأكبر... أما ديون الدولة فستنخفض بشكل كبير جداً (ولن يبقى إلا نسبة ضئيلة) في البنوك المحلية. إنما القروض التي حصلت عليها اليونان قبل ذلك من الاتحاد الأوروبي سيتوجب على أثينا سدادها باليورو، ولكن بسبب ضعف الدراخما ستضعف قدرة اليونان على السداد لحد الاستحالة. من هنا ستطبع الدولة الدراخما حسب رغبتها، لكن العملة ستواصل انخفاضها، وسيتم تصنيف اليونان كدولة عاجزة عن سداد ديونها، ومن ثم لن يسمح لليونان بالحصول على قروض من سوق رأس المال، والدائنون لن يجدوا سوى الحسرة بعد خسارة 227 ملياراً كأموال مساعدات.
هذا سيؤدي إلى تدني أسعار المنتجات اليونانية، وستكون تكلفة قضاء الإجازة في اليونان منخفضة، وسيعقد الأجانب صفقات مربحة جداً عند شرائهم للمنازل. الصادرات اليونانية ستكون رخيصة جداً خارج البلاد، لكن المنتجات الجذابة ستكون نادرة ولا يمكنها إنقاذ الاقتصاد.. الأدوية المستوردة من الخارج ستكون باهظة الثمن ولن يستطيع المواطن العادي شراءها.. والكثير منها لن يعرض سوى في السوق السوداء..
أرصدة التوفير اليونانية ستنتقل إلى البنوك الأجنبية وستنحصر بها تقريباً، أما البنوك اليونانية فستغلق أبوابها تباعاً. الشركات لن تعود قادرة على سداد الفواتير القديمة باليورو، وستصبح متعسرة مالياً، وسترتفع معدلات البطالة لمستويات عالية، وسيزداد الفقر.. وستندلع احتجاجات عنيفة.. الكثير من النخب والأطباء والعمالة الماهرة المدربة وأصحاب الخبرة وخريجو الجامعات سيغادرون اليونان..
ينتهي التقرير إلى أن كل ذلك سيؤدي إلى إفلاس اليونان وسيكون البلد في كارثة، وسيتعين على أوروبا مواصلة دعم اليونان، فالبلاد لا تزال عضواً في الاتحاد الأوروبي..
يبدو أن فصول الملحمة اليونانية ستستمر هكذا دواليك ولا أحد يعلم متى ستتوقف.. إذ إن الاتحاد الأوروبي لو أعفى اليونان من ديونها أو تنازل لها فستطالب دول أخرى مدينة مثل إسبانيا والبرتغال وستخر السبحة.. بالمقابل لو لم يتم تقديم تنازل لليونان فقد ينتهي الوضع بخروج اليونان من الاتحاد الأوروبي، وتلك مقدمة لانهيار الاتحاد، وتشجيع فئات شعبية عريضة في بعض دول الاتحاد تطالب بالخروج منه مثل بريطانيا باعتباره لم ينفعها بل ضرها، حيث زادت الهجرة من دول أوروبا الفقيرة إليها وزادت معها البطالة بين المواطنين..
هذا التناقض الذي يمر به الاتحاد الأوروبي، يمر به، أيضاً، اليونانيون فهم صوتوا لرفض شروط الاتحاد الأوروبي، ولكن في نفس الوقت فالغالبية العظمى منهم لا يريدون الخروج من منظمة الاتحاد الأوروبي.. ويقولون نحن أوروبيون.. كالطفل يريد أن يأكل الشوكولاته ويريد أن يحتفظ بها في نفس الوقت..
بين هذه التناقضات ثمة دب روسي يتربص الفرصة السانحة، فقد اعتبرت روسيا أن رفض اليونانيين لشروط الاتحاد الأوروبي هو مقدمة مؤكدة لخروج اليونان من الاتحاد الأوروبي، وأبدت في فترة سابقة استعدادها لإقراض اليونان. ليس من المستبعد أن تدخل أمريكا (وهي أيضاً لها ديون على اليونان) في الخط مباشرة أو مواربة، فأمريكا دائماً وراء الباب..
ربما تشكل هذه المعضلة جذور أزمة بنائية بين دول الاتحاد الأوروبي.. فقد لا يكون الفرق جغرافياً فقط بين اليونان التي تقع في جنوب شرق أوروبا ويعاكسها موقع ألمانيا في شمال غرب أوروبا.. الفوارق الأخرى ليست هينة فاليونان كانت إلى وقت قريب أشبه بدول العالم الثالث، وألمانيا من أكثر دول العالم تقدماً.. واليونان تديرها حكومة يسارية تنظر لصندوق النقد الدولي والبنوك العالمية كبؤر رأسمالية تملكها برجوازية أنانية بينما يدير الحكومة الألمانية حزب رأسمالي محافظ.. أيضاً، قيم العمل لدى اليونانيين والألمان لا تبدو متقاربة، الألمان من أكثر شعوب الأرض إجلالاً للعمل، واليونانيون ليسوا من عشاق العمل المجهد..
بعد تصويت اليونانيين برفض تنفيذ شروط الاتحاد الأوروبي قدم وزير المالية اليوناني استقالته لكي لا يحرج حكومته في الحلقة الجديدة من المفاوضات مع دول الاتحاد الغنية، فهو يساري راديكالي أزعج دول غرب أوروبا بانتقاداته «المتطرفة» خاصة عندما وصف ضغوطهم بالإرهاب.. فهل يفعل الألمان استقالات مشابهة لكي تتحسن فرص المفاوضات ويتم تقديم تنازلات بين الطرفين؟.. هذا هو المرجح، إنما الأكيد أن بداية النهاية قد اقتربت، وأن خروج اليونان من الاتحاد الأوروبي لا يمكن تصوره.. لكن كما يقول المثل الإنجليزي «المفاجآت دائماً تحدث».