د.عبد الرحمن الحبيب
في فترة تكرر عليَّ القول والنصيحة بشراء أسهم شركة، لأنَّ قيمتها مقبلة على صعود كبير. لقد فعلت، ومرَّ شهر وصل الارتفاع إلى نحو 30%، قلت هذا وقت البيع، فنهرني الأصدقاء وألحوا عليَّ بالتأني، فالارتفاع مستمر، فانتظرت.. في نهاية المطاف بعت بخسارة!
ما الذي فعلته؟ إنه ما يسمى في علم النفس الاجتماعي «انحياز الإثبات الاجتماعي»؛ ويقصد به أنَّ الأفراد يشعرون بأنهم يتصرفون بشكل سليم إذا اتبعوا طريقة الآخرين المحيطين بهم نفسها. بعض الناس يسميها غريزية القطيع، وهي غريزة طبيعية من أجل البقاء متجذرة في أدمغتنا ومثبتة في جيناتنا؛ فلو أنك سمعت ضجيجاً وخرجت من مكتبك في العمل ثم وجدت الموظفين كلهم يهرعون نحو البوابة، فإنك غريزياً ستهرول معهم، فقد يكون ثمة حريق مثلاً، ثم لاحقاً ستسأل.. فأنت لن تسأل عن السبب، وتنتظر وتلتفت ثم تُحكِّم عقلك كي تتصرف.. بل الأفضل لك أن تتبع الآخرين، ثم لاحقاً تسأل كما تشاء.
هناك نوعان من التصرف: الغريزي السريع، والعقلاني المتأني؛ كلاهما مهم، لكن لكل منهما وقته ومكانه المناسبين. ونحن كثيراً ما نستخدم الغريزي السريع في غير مكانه أو زمانه لأنه متجذر أكثر في جيناتنا، فهو الأسرع إلى أدمغتنا والأسهل كثيراً من التفكير العميق الذي يتطلب جهداً وبحثاً.
قصة الأسهم التي سقتها في المقدمة كلاسيكية معتادة ربما حدثت لكل من دخل سوق الأسهم، فلم ينجو منها أحد غير المحظوظين، وليس المخططين، مهما زعم بعض الناس التفنن في هذا المجال. ففي أسواق الأسهم يطغى تأثير انحياز الإثبات الاجتماعي، وقد أثبتته دراسات عديدة مؤكدة أنه حتى خبراء التوقع ليسوا بمنجاة منها.
يكاد جميع المشترين لا يقرؤون النشرة الاقتصادية الخاصة بالشركة أو يطلعون على العائد من رأس المال أو جودة الإدارة وأعمالها التجارية، فكل ما نعرفه قبل شراء الأسهم أو الاكتتاب العام هو قصص يتداولها الناس والإعلام. الغالبية إن لم يكن الجميع ينظر إلى الآخرين أمثاله ويقفز إلى السوق مثلهم.. مع الخيل يا شقراء.
وليس فقط أمثالنا من العوام نقع في فخ انحياز الإثبات الاجتماعي، بل حتى الهوامير وكبار القيادات في الشركات والبنوك، كما يؤكد ذلك خبراء الاجتماع، فهم بشر مثلنا. يذكر تشارلي مونجر أن كبار رجال الأعمال تجرفهم موجات الإثبات الاجتماعي، فقبل سنوات في أمريكا قامت شركة نفط كبرى بشراء شركة أسمدة، فتبعتها كل شركات النفط الرئيسة الأخرى ركضاً واشترت شركة أسمدة. لم يكن هناك سبب عملي اقتصادي لهذه الشركات النفطية لشراء شركات الأسمدة، لم يكن أحد يعرف بالضبط لماذا أو ما يجب القيام به، لكن إذا كانت شركة إكسون فعلت ذلك، فإنه من الجيد بما فيه الكفاية أن تفعل ذلك شركة موبيل، والعكس صحيح. أعتقد أنهم ذهبوا جميعاً إلى كارثة، يقول مونجر.
هناك شعور آخر غير الغريزي يذكره خبراء الاجتماع وهو الخشية من الشعور بالندم أو اللوم من الآخرين. فعندما يقوم مدير الشركة بعملية شراء مشابه لما قامت به الشركات المنافسة دون أن يمتلك أسباب مقنعة غير «مع الخيل يا شقراء» فإنه ينجو من اللوم الذي سوف يأتيه فيما لو لم يتخذ قرار الشراء، أما إذا حصلت خسارة فسيقول إن كل الشركات المنافسة وقعت في الخسارة مثلنا، «والموت مع الجماعة رحمة» كما يقول المثل.
كذلك لا يجازف أغلب المديرين في استثمارات غير مألوفة لم تخضع للإثبات الاجتماعي، حتى لو بدت عقلانية وحكيمة، يقول سانجاي باكشي في إحدى محاضراته على لسان أحد المديرين: «لا يهمني كثيراً ما الذي يحدث لشركة جونسون آند جونسون طالما يحصل عليها الجميع، فكلنا إذا هبطنا سنكون معاً. ولكن من ناحية أخرى، لا يمكنني تحمل جهد محاولة تحقيق مكاسب كبيرة من أسهم غير مألوفة مما سيفتح عليَّ باب النقد إذا فشلت الفكرة..»
إذن، فكِّر في ذلك عندما تنوي استثمار أموالك عند جهة مدارة بشكل ناجح ولا تعتمد بشكل أعمى على إدارتها، فالخبراء يقولون إن المديرين الماليين هم بشر مثلك لديهم انحياز الإثبات الاجتماعي يشترون ما يشتريه المديرون الآخرون، لأن في ذلك أمان وظيفي لهم وراحة بال.
وإذا كان انحياز الإثبات الاجتماعي هو أكبر مؤثر في سوق الأسهم، إلا أنه موجود أيضاً في مناحي الحياة كافة ويؤثر فينا جميعاً وبشكل سلبي في الغالب. ولكي نرى مدى تأثيره قام عالم النفس سلمون آش بتجربة بسيطة توضح كيف يتأثر الفرد بالآخرين.
تم اختيار أفراد كل على حدة ووضع أمامهم خطاً ويقابله ثلاثة خطوط واحد أطول والآخر أقصر وثالث مساو للخط المقارن، وطلب من كل شخص اختيار الخط المساوي. وظهرت النتيجة التالية: إذا كان الفرد لوحده فإن النتيجة سليمة مئة بالمئة لدى جميع الأفراد في اختيار الخط المساوي لخط المقارنة؛ لكن عندما جلب أربعة أشخاص ممثلين وطلب منهم كخدعة اختيار الخط الأطول باعتباره مساوياً لخط المقارنة وطلب من شخص خامس (لا يعلم بالخدعة) تحديد الخط المساوي كانت النتيجة أن 30% اختاروا الخط الخطأ وذلك لكي يتماشى مع إجابة الآخرين الخاطئة.
من هنا تقوم المسلسلات الكوميدية بوضع جهاز يظهر ضحكات جمهور مصطنع لكي يحفز مشاعرنا على الضحك رغم أن المشهد هو ذاته. كذلك تستفيد الإعلانات التجارية من تأثير انحياز الإثبات الاجتماعي عندما لا يكون للمستهلك رأي محدد في المنتج، فإن الإعلان يؤكد له أن كثيراً من الناس يشترون هذه البضاعة، وتلك الطريقة أثبتت فاعلية عظيمة في التأثير.
لذا كن شكاكاً إذا قال لك الإعلان التجاري أن بضاعته أفضل فقط لأن لها شعبية بين الناس، وتذكر المقولة المشهورة للروائي الإنجليزي سومرست موم: «إذا قال خمسون مليون شخص شيئاً أحمق، فإنه لا يصبح حكيماً.» أما عندما تقرر شراء الأسهم، فبدلاً من البحث عن سبب الشراء، ليكن لديك ثلاثة أسباب مقنعة لعدم الشراء. وأسأل نفسك: لماذا لا أشتري هذه الأسهم؟ أي ابحث عن الأسباب النافية وليس الأسباب المثبتة، هذا سيساعدك على تجنب التحيز الناجم عن الإثبات الاجتماعي كما يقول خبراء الاجتماع. فلا تدخل سوق الأسهم حتى تسأل هذا السوال..