د.عبد الرحمن الحبيب
«إيران يُنظر إليها الآن على أنها أثبتت مقدرة على حل المشاكل المعقدة من خلال الحوار الدبلوماسي، مما يُشجع على التفكير فيها كشريك في حل مشاكل المنطقة، حيث الدول العربية مشلولة بمعظمها، ولا يوجد بينها غير لاعب نشط واحد هو السعودية».
هذا ما ينقله الكاتب البريطاني إيان بلاك من صحيفة الجاردين عن مستشار سياسي رفيع لم يذكر اسمه.. مثل هذا الطرح بدأ يظهر هذه الأيام. هل صحيح أن ولادة عسرة لاتفاق استمرت مفاوضاته النهائية نحو ثلاث سنين، وكانت بدايته من حوالي عشر سنوات يعني مقدرة على حل المشاكل المعقدة؟.. ماذا عن المقدرة الإيرانية في إثارة القلاقل والعداء مع المجتمع الدولي فلا ينافسها في ذلك إلا كوريا الشمالية؟
ثمة أيضاً من يرى أن إيران أظهرت نجاحاً داخلياً رغم الأزمات الخانقة التي يعيشها الداخل الإيراني. أعين هؤلاء طبيعية لكن زاوية الرؤية ضيقة، عندما تقارن بين إيران وما تراه من العالم العربي إذا كان المشهد منحصراً في العراق وسوريا ولبنان واليمن وليبيا.. أي ما يصل للمشاهد الغربي من الأخبار اليومية.
الشاهد هنا أنه بعد توقيع الاتفاق النووي الدولي (مجموعة 5 + 1) مع إيران ثمة من يؤكد وجود تغير إستراتيجي من الغرب تجاه إيران من ناحية والدول العربية وعلى رأسها السعودية من ناحية أخرى. هذا التغير يمكن رصده من الأُطروحات الغربية سواء من قبل القادة السياسيين أو مستشاريهم أو المحللين والكتَّاب. هل هذا صحيح؟ أظنه صحيح جزئياً، أي غير دقيق وناقص.. نعم هو تغيير لكنه تكتيكياً غير إستراتيجي.. كيف؟
إذا كان ثمة زيادة في طرح بعض وجهات النظر الغربية التي تتهم السعودية باحتضان الفكر المتشدد الذي ساعد على نشؤ التنظيمات المتشددة، فإن هذه الوجهات نفسها تقر أن السعودية تكافح التنظيمات المتشددة بلا هوادة وعلى كافة الأصعدة وتشارك المجتمع الدولي في مكافحة الإرهاب.. فضلاً عن أنها تُشكِّل عامل استقرار اقتصادي عالمياً.
بالمقابل لا يزال الغرب يتهم إيران بأنها داعم مباشر للمنظمات الإرهابية وتتدخل في شؤون دول المنطقة وعامل أساسي في عدم استقرار المنطقة والعالم.. بل إيران نفسها لا تتوانى عن الافتخار بدعمها لمنظمات تُعد إرهابية في المنظومة الدولية، طارحة إيديولوجيتها الخاصة وأجندتها المتمردة على المجتمع الدولي..
من وجهة النظر الغربية العامة، الفرق كبير في الحالة، فالسعودية متهمة وإيران مدانة.. وحتى في الاتهام، السعودية متهمة في مسائل فكرية نسبية فيها كثير من النظر، أما إيران فمتورطة واقعياً مع سبق الإصرار والترصد.. هذه النظرة الغربية العامة قبل الاتفاق النووي، ولم تتغير بعده. فما الذي تغير؟
الذي تغير أن الغرب وبالذات أمريكا وبالذات إدارة أوباما ترى أن الأحداث الجِّسام في الشرق الأوسط والتغيرات الحادة المتقلبة فيه أدت إلى خلط الأوراق وتقاطع المصالح.. مثلاً مواجهة الأمريكيين والإيرانيين معاً ضد داعش في العراق رغم أنهما لم تدخلا بعد في عمليات مشتركة.. بينما النقيض يحدث في اليمن بين المصالح الأمريكية والإيرانية. ذلك التناقض الجديد في غرابته هو أحد أمثلة التقلبات الحادة التي تشهدها المنطقة مما تطلب تغيراً أمريكياً في التعامل مع إيران كحل الأزمات في العراق وسوريا وغيرهما.. وهذا باختصار هو المنطق الذي سهَّل وصول الدول الغربية (أمريكا بكلمة أدق) للاتفاق النووي مع إيران.
يمكن تلخيص النظرة الأمريكية بأن إيران داعم لتنظيمات إرهابية، وأن سياستها التدخلية هي إحدى المشاكل الأساسية في الشرق الأوسط، وهي في نفس الوقت تشارك أمريكا في مواجهة بعض التنظيمات الإرهابية الأخرى.. ومن ثم فإن الدخول مع إيران في اتفاق كمقدمة لاحتوائها وتدجينها في المنظومة الدولية ستكون محاولة تاريخية تستحق العناء والمجازفة..
لا ننسى أن ليس كل القادة الغربيين مع هذا الاتفاق، لكنهم سايروا أمريكا، فالبعض منهم يرى أن عدم الاتفاق أفضل من اتفاق سيئ مع إيران، كما كررها مسؤولون بريطانيون. إنما أصحاب الرأي الذي ساد يرون أن اتفاقاً وإن كانت تشوبه نواقص عدة هو أفضل مثلما قال أوباما: «إن الاتفاق لا يلغي كافة التهديدات التي تشكّلها إيران لجيرانها أو للعالم، لكنه أفضل سبيل لضمان عدم حصول إيران على قنبلة نووية.» فأمريكا لا ترى في النظام الإيراني طرفاً موثوقاً إذ يقول أوباما: «سيكون لدى إيران مزيد من الموارد لجيشها وللأنشطة الأخرى التي تُشكّل تهديداً حينما ترفع العقوبات.. لكن ذلك لن يغير قواعد اللعبة...»
ثمة سؤال مهم.. من الذي تنازل للآخر في هذا الاتفاق؟ البعض في الغرب يرى أن إيران هي التي تنازلت عن برنامجها النووي، وستسمح للمراقبين الدوليين متى شاؤوا بتفتيش المقرات الإيرانية.. فإيران تتنازل عن كبريائها وبرنامجها من أجل رفع العقوبات!.. ومن هنا يأتي معنى العقوبات على إيران فقد أثمرت وحان قطافها عبر هذا الاتفاق.
بينما يرى آخرون أن المجتمع الدولي (ممثلاً بمجموعة 5 + 1) تنازل لإيران عن كل العقوبات مقابل تنازلها عن برنامجها النووي.. وهنا مشكلتان: الأولى من الذي يضمن مصداقية إيران التي طالما قالت شيئاً وعملت خلافه، والثاني أن إيران لا تزال تهدد استقرار المنطقة والعالم في حين أن برنامجها النووي يُشكِّل جزءاً من الأزمة وليس كاملها.
لا أحد يُمكن أن يكون ضد اتفاق يوقف التسلح النووي ويدعم الاستقرار، بل كلنا معه.. فعندما تلقى الملك سلمان اتصالاً هاتفياً من أوباما بعد الاتفاق المبدئي قبل ثلاثة أشهر، أجابه الملك سلمان عن أمله في أن يتم الوصول إلى اتفاق نهائي ملزم يؤدي إلى تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم.. وقبل أيام قال وزير الخارجية عادل الجبير خلال لقائه نظيره الأمريكي جون كيري: «نأمل في حال تنفيذ الاتفاق أن يستغل الإيرانيون الاتفاق من أجل تحسين الوضع الاقتصادي في إيران وتحسين أوضاع معيشة شعبهم.. وألا يستغلوه في مغامرات بالمنطقة».
أيهما أفضل: اتفاق ناقص.. أم لا اتفاق؟ إنه مشابه لحكاية الكأس نصف المملوء ثمة من يراه نصف فارغ.. فهل تملؤه إيران بتحسين أوضاع شعبها والتعاون مع المجتمع الدولي، أم تفرغه بتصدير أزماتها للخارج؟