قاسم حول
أشاهد بين الحين والحين على شاشات التلفزة وأقرأ حينًا في وسائل الإعلام المقروءة أو أسمع من الراديو ندوات ومقالات عن (المثقف) و(الثقافة) و(المثقفين) وهم يعنون بالقول الأدباء والفنانين، وهذا المفهوم يسود حتى الأوساط الأدبية والفنية وبشكل خاص في العراق، حيث التبست المفاهيم وغاب عن الوطن عدد غير قليل من الأدباء والفنانين و(المثقفين) في شتى مجالات الثقافة. واختاروا المنفى بديلاً عن الوطن!
وينعكس مفهوم المثقف على برامج القنوات الفضائية إِذ يدين بعضها إهمال الدولة لدور المثقفين بدليل اعتبار وزارة الثقافة وزارة غير سيادية. «بعض نظم العالم تسمي وزارة الثقافة - وزارة الثقافة والحضارة»
يسود الاعتقاد بسبب غياب النهج الثقافي العميق في أوساط المجتمع العراقي بأن الثقافة تعني الشعر وتعني المسرح وتعني السينما وتعني الموسيقى والغناء. ويروح مقدم البرنامج التلفزيوني وعدد من المتحاورين يغوصون إلى حد الاختناق في متاهات الأدب والفن وموقف الدولة من الثقافة «حسب المفهوم السائد للثقافة»!
من قال: إن المثقف هو الأديب والفنان والكاتب والصحفي فحسب!
إن كثيرًا من الشعراء والصحفيين والفنانين الذين مروا بتاريخ العراق ليسوا مثقفين بالمعنى المعرفي للثقافة التي هي عالم زاخر من الجماليات والمعطيات الإنسانية والتاريخية، وحتى أسماء كبيرة من الشعراء مروا بتاريخ العراق وهم جلاس المقاهي يتداولون الأخبار في المقاهي صباحًا وتأخذهم الحانات ليلا. لا أدري متى يقرأ ذلك الشاعر أو الصحفي من رواد المقاهي وما هي أبعاد معرفته الإنسانية والجمالية، وحتى المسرحيات العراقية في تاريخ العراق المسرحي أو الأفلام السينمائية العالمية والعربية والعراقية، لم أكن أرى وسط ظلامها ذلك الحشد من رواد المقاهي!
الثقافة لا تعني الأدب والفن. وهذا التعبير أقرب إلى المجاز منه إلى الواقع. الآداب والفنون هامش من الواقع الثقافي، إِذًا ماذا نسمي خبير البحار وآفاقها وعوالمها البيئية، وماذا نطلق على خبراء القوانين الدولية ومشكلات الحدود، وماذا عن ثقافة الغذاء والصحة وخبراء الأدوية والطب ومعرفة جسم الإِنسان، وماذا عن علماء رواد الفضاء وآفاق معرفتهم الكونية. وماذا عن ثقافة الطفل، وأين نضع خبراء الزراعة والمياه من الثقافة، وماذا عن الثقافة الأمنية التي تعرف حماية الوطن ومستلزماتها السيكولوجية والتقنية، وماذا عن الثقافة العسكرية ومهام الدفاع عن الوطن؟ وماذا نطلق على مترجمي اللغات وخبراء اللغة، وماذا نطلق على ثقافة بناء العمارة الذي يعد من الفنون السبعة الذي استلفنا منه تعبير (البناء) البناء الدرامي والبناء الشعري والبناء الروائي والقصصي؟!
هذه النخب المتألقة في العالم هم رواد الثقافة. والمشكلة تكمن في الدولة وفي المجتمع وفي النظم السياسية، تكمن في طبيعة هذه الدولة أو تلك ومدى تحضرها في صياغة القوانين و(ثقافة القوانين) حتى يتمكن المجتمع وتتمكن النخب المثقفة من ممارسة دورها الاجتماعي والحضاري.
تتحكم نتيجة التراجع الاجتماعي العربي والإسلامي في منطقة الشرق الأوسط سلطات دينية مؤدلجة وفق مناهج أحزاب تتخذ من المنهج الروحي للدين أفكارًا تقاس بالمساطر والسنتيمترات وتحاكم بموجبها الثقافة والمثقفين وبشكل خاص وواضح الثقافة الأدبية والفنية لاعتبارات اجتماعية، ولذلك فإنها تعمل على إلغاء الآخر «المثقف» الذي يصطدم مع فكرها الممسطر والمقاس بالسنتيمترات وتحاكم هذه الثقافة الأدبية والفنية عبر الخطب السياسية والدينية لتصبح منهجًا يملك قوة القانون ويحاكم بموجبه المثقفون.
الثقافة عندما تسود المجتمع ينسحب الجهل بالضرورة ويتقلص التخلف بالضرورة ويتحسن أداء الشارع ويعرف المواطن حدود المواطنة، وحب الوطن، والحرص عليه. فالمشكلة تكمن في قيادة الثقافة للدولة وليس قيادة الدولة للثقافة إِذ تتحكم فيها وتشرع القوانين الجائرة بحقها. حينها ينهار المجتمع السياسي والاقتصادي والاجتماعي ويقود الدولة الجهل والتخلف وتتغير مناهج التعليم وفق هذه التشريعات البرلمانية السياسية والبرلمانية الدينية والبرلمانية العشائرية، ونقرأ على الوطن السلام!