قاسم حول
في نهاية الأربعينيات كان الفلسطيني، الكاتب والروائي»جبرا إبراهيم جبرا»، يعمل في شركة نفط العراق مشرفًا على الثقافة والإعلام. وكان يصدر مجلة ثقافية اسمها «أهل النفط»، استقطبت كبار الكتاب في الوطن العربي. أتذكرها مطبوعًا أنيقًا بورق صقيل وبحروف طباعية دقيقة تصعب طباعتها في مطابع بغداد.
ويبدو لي أنها كانت تطبع في بيروت. مجلة شهرية تصدر في مواعيدها وينتظرها المثقفون لأنها تستقطب الأسماء الثقافية في الوطن العربي. المثقفون العراقيون يطمحون في نشر قصصهم وأشعارهم ولوحاتهم، لا سيما أن جبرا إبراهيم جبرا اعتمد مبدأ المكافأة مقابل الأعمال الأدبية والفنية، فكانت المكافأة تشكل حجمًا في اقتصاد المثقف العراقي لأن مبلغ خمسة أو عشرة دنانير عراقية تشكل ربع أو نصف الراتب في ذلك الوقت. وكانت المجلة تنفد من المكتبات يوم صدورها.
وفي المجال الفني السينمائي شكل جبرا إبراهيم جبرا وهو المشرف على القسم الإعلامي والثقافي وحدة سينمائية أخبارية ووثائقية تضم مصورين وتقني مونتاج ومهندسي صوت، وصار يصدر مجلة سينمائية مرئية هي «أخبار العراق» تصور في العراق ويتم تظهيرها وطباعتها في لندن، وكانت تعرض في صالات السينما قبل برنامج الفيلم الروائي. تظهر على الشاشة صورة الملك فيصل الثاني ممزوجًا بالعلم العراقي الذي يرفرف، فنقف إجلالاً للعلم والملك فيصل الثاني.
عندما تحرك العسكر وأحدثوا انقلابًا غير محسوب العواقب في العراق ونجحت حركتهم، تبعثرت الأوراق والأفلام على حد سواء، فدخلنا في دوامة الانقلابات العسكرية التي قادت سفينة العراق في خضم العواصف الهوجاء في البحر الهائج المائج!
يومًا وبعد كل سنوات العذاب وبعد أن استقر بي الحال في هولندا دعيت من قبل مؤسسة هولندية دعمتها «أرامكو - شركة النفط في المملكة العربية السعودية» لمشاهدة معرض للأزياء السعودية ومعرض للوحات الرسم، مشروع ثقافي متكامل تقف وراءه سيدات من المملكة على مدى أسبوع تمت تغطيته من قبل وسائل الإعلام المقروءة والمرئية في هولندا. وكان المعرضان والكلمات التي ألقتها المبدعات السعوديات مثار إعجاب الجميع.
هذه ظاهرة مرت انتهت وكنا نطمح أن تتكرر وتدرس فيتعدى الدعم الذي قدمته أرامكو فنون التشكيل والأزياء وبمنهج ثقافي ليشمل كل أدوات التعبير وعلى مساحة العالم. وكنت أتمنى أن يتم دعم الثقافة العربية والمثقفين العرب وأرامكو جديرة بهذا
سألت نفسي كم يكلف دعم الثقافة والمثقفين من قبل شركات النفط.. كم برميل نفط يساوي هذا الدعم، وكم من فائدة ثرية يجنيها هذا الدعم، لاسيما إذا ما برمجت الثقافة ودرست كي تعكس واقع المملكة وتعكس واقع الوطن العربي والإسلامي وكم ستكشف من حقائق أمام أرامكو نفسها حيث تطل على واقع زاخر بالمفاجآت التي لم تعرفها أرامكو من دون عين الكاميرا وفرشاة الرسم وأزميل النحت وحاسوب الشعر وجمال المرأة في أزيائها الحلوة!
في عودتي للعراق حاولت البحث عن مجلة «عراق اليوم» السينمائية المرئية فوجدت آلاف العلب السينمائية تحت الأنقاض، ولم أغادر المكان حتى نقلتها إلى بناية تليق بها وهي ليست سوى الخطوة الأولى في إنقاذ الذاكرة. سألت قسم الإعلام في وزارة النفط العراقية إن كانوا يحتفظون بمجلة «أهل النفط» فلم أجد عددًا واحدًا من تلك المجلة الثقافية الجميلة.
اعترف أن وزير النفط السابق عبد الكريم لعيبي ومن خلال السيد عاصم الجندي مسؤول الإعلام في الوزارة قد بادر بتكريمي بمناسبة عودتي للوطن وقد عرض فيلمي (المغني) خلال عملية التكريم فاقترحت على السيد الوزير أن أنتج فيلمًا للوزارة عن قصة النفط في العراق يحمل عنوان «النار الأزلية» وهي النار التي لا تزال مشتعلة منذ الأزمان الغابرة، أزمان السومريين، نار تلامس الهواء فتتقد فوق سطح الأرض. وهذه النار هي قصة العراق الأزلية وهي قصة الصراعات والانقلابات وقصة الصراع على السلطة وقصة الضيم والحيف وقصة الفرح والأمل. هي قصة ملحمية مثيرة.
بعد أن تغيرت الوزارة وجاء الدكتور عادل عبد المهدي إلى رأس الوزارة سافر باتجاه شمال العراق حيث يقيم الكورد ولا شك مر على النار الأزلية في «كركوك» ولم يعرها اهتمامًا بل ذهب لكي يعقد اتفاقية نفطية لا أستطيع أن أدرك مدى حاجة العراق لها فكتبت مقالة في صحيفة عراقية عن زيارته عندما استوقفته النار الأزلية وقبل أن يجتمع برئيس إقليم كردستان «لا شك أني أهم من رئيس إقليم كردستان» حيث أنا أريد التحدث عن قصة العراق التاريخية فيما يتحدث رئيس الإقليم عن الجغرافيا!
لست بصدد المفاضلة أيهما أكثر وزنًا مقابل برميل النفط بل من منطلق أيهما يخدم العراق أكثر ومن يكلف خزينة الدولة من المال أكثر. إن فيلمي «النار الأزلية» يكلف الدولة عشرين ألف برميل نفط ومرة واحدة فيما كلف الاتفاق بين وزير النفط ورئيس إقليم كردستان خمسمائة ألف برميل خسارة يومية!
صحيح أن النفط عصب البلدان النفطية الحساس وقوام سعادتها ولكن بضعة براميل من نفط العرب باتجاه الثقافة سوف تعيد صورة الملك فيصل الثاني على الشاشة السينمائية في العراق وتعرف شعوب أوروبا بأزياء المملكة وفنونها التشكيلية!