قاسم حول
ليست هي أفلام مقاومة النازية التي سادت ألمانيا لسنوات طويلة بعد الحرب العالمية الثانية، التي اعتادت الثقافة الألمانية التحدث عنها وأرشفتها وعقد المؤتمرات والمهرجانات عنها ما حدا بمهرجان لايبزغ للأفلام التسجيلية إلى تخصيص إحدى دوراته لعرض الأفلام التي تحدثت عن تهديم مدينة لايبزغ خلال الحرب العالمية الثانية وعرض الأفلام التي أنتجت عن مقاومة الفاشية وأفلام أخرى عن الحرب.
اليوم ومن داخل مركز الأرشيف الألماني أشرفت الكاتبة والناقدة السينمائية الألمانية (Irit Neidherdt) على تنظيم عشرة أيام سينمائية عن أفلام المقاومة الفلسطينية في لبنان في فترة السبعينات حتى عام 1982، عام الحرب على لبنان ومغادرة منظمة التحرير للأراضي اللبنانية. وقد عرضت عدة أفلام في صالة سينما مركز الأرشيف الألماني، أفلام لمخرجين فلسطينيين ومخرجين عرب ومخرجين غير عرب قدموا أفلاما عن المقاومة الفلسطينية وأنتجوها في تلك الحقبة من التاريخ الفلسطيني واللبناني. أقيم هذا المهرجان للفترة من التاسع والعشرين من شهر مايو حتى العاشر من شهر يونيو/ حزيران 2015
الثقافة الغربية والثقافة الألمانية هي ثقافة إنسانية تنظر إلى الواقع بعين الحقائق الموضوعية، فهي لا تنحاز سياسيا مع أو ضد، وليس عندهم اللون كما عندنا لونين فحسب أسود وأبيض، بل أن للحقيقة الموضوعية ألوانا وأيضا تدرجات لونية. ومن هنا كان إقدام المشاهدين في ألمانيا على مشاهدة تلك الحقائق الموضوعية ومناقشتها كحقائق موضوعية دون أن يجري المساس من ضد اليهود ومن معهم ومن مع الفلسطينيين ومن ضدهم! بالرغم من أن كافة الأفلام التي عرضت كانت عن القضية الفلسطينية.
حضر كافة العروض وبمواظبة يومية وحريصة على مناقشة الجوانب الفكرية والفنية للأفلام ونوقشت ظروف الإنتاج، شخصيات ثقافية كبيرة كان من بينها الناقدة الألمانية الدراماتور «إيريكا ريشتر» ومدير مهرجان لايبزغ التاريخي «رونالد تريش» والمخرجة الألمانية «مونيكا ماورر» والمخرج السوري «محمد ملص» والمخرج الفلسطيني «موفق سلامة» والسينمائي «محمد مواس» وكاتب هذا المقال، وعدد كبير من المثقفين من رجال الصحافة والأدب والفن.
أتساءل والزمن يكاد أن يطويه النسيان كيف خرجت الأفلام من علب الأرشيف الألماني لتعرض على الشاشة من جديد بعد كل تلك السنوات، فالمقاومة الفلسطينية في ضجيج الصراع انتهت واتخذت مسارا ثانيا، وتحولت من المنفى إلى الأرض، وكدنا ننسى تلك الحقبة السياسية والسينمائية إذ لم يعد يتذكرها الإعلام حيث تلونت الفضائيات بشتى أشكال المتغيرات الجديدة من الغناء والدمار حتى طوى النسيان الأفلام الفلسطينية، وأبقى علبها راكنة على رفوف الأرشيف معتنى بها محفوظة وفق شروط الأرشفة فيما كانت عندنا ضائعة تحت أنقاض التي دمرتها الحروب، فأخرجها الألمان أفلاما طازجة تكشف عن ذاكرة التاريخ غير مكترثين بماذا يقول المتلقي عن الصراع العربي الإسرائيلي! فالعروض السينمائية الفلسطينية هي ظاهرة ثقافية نظر إليها بعد كل هذه السنوات التي مرت على الثقافة السينمائية كي نراها بعين ثانية غير تلك الرؤية لواقع فلسطين في لبنان ما بين قواعد المقاومة والغزوات والصراع المسلح والسياسي في أعوام باتت من الماضي. حقا كانت مشاهدة مثيرة ما يعكس قراءة جمهور الغرب للتاريخ فبدت الأحداث وكأنها اليوم وسط ما يجري في العالم من متغيرات.
لماذا يعاد عرض الأفلام الفلسطينية وتخصص المبالغ المالية لها ولأحداث انتهت، وتعيدها للأذهان بدون أن تشعر بالاستفزاز؟ّ عروض سينمائية وضعتنا في صورة الواقع الذي أصبح مجرد ذكرى يكاد أن يطويها النسيان!
اليوم ونحن في صخب الدنيا المتمثل في منطقة الشرق الأوسط تحترق صالات السينما وتحترق الأفلام، بل أنها احترقت فعلا وحقيقة لا مجازاً.
اليوم تغلق مهرجانات سينمائية في الشرق أبوابها، وتطغي قنوات الفضاء بديلا عن صالات السينما التي تحولت إلى مخازن لبضائع البلاستيك!
اليوم لم يعد المشاهد مكترثا بالعروض السينمائية حتى الحديثة منها والمتطورة تقنيا وفنيا.
في مثل هذا الواقع المتردي ثقافيا في المنطقة شاهدت أفلام المقاومة الفلسطينية بعين ثانية وشاهدتها بدون انغمار ودعتني الشاشة لكي أرى ما لم أكن قد رأيته حينها وحين كانت المشاهدة والإنتاج في خضم المواجهة وأزيز الطائرات وأصوات سيارات الإسعاف والركض نحو الأقبية وكانت كاميراتنا تدور وتوثق ونموت ونحيا بطريق المصادفة ولم نكن نخاف على الإطلاق واليوم نحن متلقين لثقافة كنا منتجيها دون التفكير بالربح والخسارة .. فقط كنا نعرف والأحداث تمر على الشاشة السينمائية، أن الكثيرين ممن أنتجوا هذه الأفلام لم يعودوا بيننا! هاني جوهرية وسمير نمر ومصطفى أبو علي وآخرون لا أتذكرهم!