قاسم حول
للمخرجة العراقية) ايمان خضر (التي عملت فترة من الزمن في مجال الإذاعة في المملكة العربية السعودية فيلما يحمل عنوان (مقاهي بغداد) يتحدث الفيلم بشكل حنون عن ذكريات المقاهي في العاصمة العراقية بغداد. أنتج الفيلم لمناسبة بغداد عاصمة الثقافة لعام 2013. وعرض الفيلم في هولندا يوم السبت الرابع من شهر يوليو/تموز2015
في الفيلم رحلة نحو المقاهي في العقود السابقة من عمر العاصمة العراقية ، مقهى الزهاوي ومقهى الشاهبندر ومقهى حسن عجمي. ورواد تلك المقاهي من الشخصيات العراقية الأدبية والفنية. يقع الفيلم في 45 دقيقة وقد أنتج لقناة الحضارة العراقية التابعة لوزارة الثقافة العراقية.
بعض رواد المقاهي لا يزالون على قيد الحياة وقد تحدثوا عن ذكرياتهم في تلك الأماسي البغدادية وتلك النهارات التي شاهدوا مراحل تطور الثقافة العراقية.
من جملة المقاهي النادرة مقهى تسمى مقهى (المعقدين) وهذه المقهى تجمع فيها قرب شارع أبي نؤاس مجموعة من الذين رفضوا الثقافة التقليدية وصاروا يتأبطون الكتب التي تثقل اكفهم فيميلون ماشين نحو المقهى. مجموعة من الإنطوائيين الذين حملوا (شعارات) الوجودية وعرفوا سارتر وكامي وديكارت ربما من خلال عناوين الكتب فحسب! بعضهم سافر باتجاه المقاومة الفلسطينية حيث استهوتهم لبنان كون المقاومة الفلسطينية تعيش على ألأرض اللبنانية وبعضهم بقي في بغداد فرحل عن الحياة مبكرا. بعضهم انتحر في لبنان لأسباب غريبة. وكان يمكن للمخرجة أن ترحل مع هؤلاء لكي تكشف عمق أو تسطيح الثقافة في الوجدان الشاب.
سألت المخرجة عن أهمالها لأهم المقاهي التي تقع في الوسط بين الحياة الشعبية والحياة المتمردة وهي قهوة ذات ترف ثقافي مختلف تسمى «المقهى البرازيلية» وكانت تقع في شارع الرشيد ويؤمها نخب من المثقفين الحقيقيين (رشدي العامل، نزار عباس، حساني علي كوردي، جيان، منير عبد الأمير، وكاتب هذه السطور). عندما زرت المقهى في شارع الرشيد لدى عودتي إلى بغداد لم أجد المقهى بل تحولت إلى محل لبيع الأحذية!
كنت أتمنى لو عمدت المخرجة لتصوير موقع المقهى (عن ترف الثقافة وترف الأحذية) والعودة حتى من خلال الصور الفوتوغرافية لحياة المقهى وحياة المثقفين فيها. والمرور على أولئك المثقفين الذين رحل بعضهم عن الحياة مبكرا وذلك بسبب الأسى وبسبب (الإنطفاء) ليلا إذ لا حياة سواه! كنا نتوق لحياتهم وعبثهم وكانوا يحملون الفكر الوجودي والفلسفة الوجودية بعمق ودراية وليس من خلال عنواين الكتب التي يتصفحها (المعقدون)
لم تكن تسمية المعقدين تعبيرا مجازيا بل أن المقهى عرفت بهذا الإسم وحيرت المقهى رجال الأمن في زمن الدكتاتور. فهم يختلطون بالمثقفين محاولين معرفة ميولهم السياسية ولكن أنى لرجل الأمن العراقي أن يتعرف على الفلسفة الوجودية وكان يحار في كتابة التقارير. هو يسمع إسم سارتر وسيمون دي بوفار والبير كامي ونيتشة وديكارت وفرنسواز ساغان، فهم غير لينين وعبد الناصر ورونالد ريغن. كان بعض المعقدين يميلون للتمرد وبسبب هذه النزوة تم إعدام بعضهم وسادهم الرعب (شمس الدين فارس، رياض البكري، ماهر كاظم ..) وهذا ما دفع بالكثيرين للرحيل بإتجاه بيروت متسكعين في شوارعها وفي مخيمات الفلسطينين وبين (الهورس شو) و(الدولتشا فيتا)
فجأة وبعد أن حصل التغيير في العراق تبدأ سلسلة أنفجارات في بغداد ويتبدد الأمن الهش والشكلي والقمعي أبان فترة الدكتاتور لينفلت النظام وتطال الإنفجارات شارع المتنبي الذي تقع فيه (مقهى الشاهبندر) وتقع أعداد من الضحايا من عشاق الكتب والمكتبات. بهكذا مشهد ينتهي الفيلم بعد أن يمر على أهم مقاهي بغداد التي أفرزت إجتماعيا وإقتصاديا وثقافيا نخبا من مثقفي العراق. فيلم إيمان خضر الوثائقي أفضل بكثير من أفلام نفخت فيها الميزانيات لأسباب غير مبررة!
تجاوزت ميزانيات الأفلام المليون دولار وهي خمسة أضعاف كلفتها فيما أخرجت إيمان خضر فيلمها بميزانية قدرها سبعة وثلاثين ألف دولار! لكنها بهذا المبلغ الضئيل تمكنت من تجاوز الكثير من الأفلام العراقية وبحنان سينمائي صادق.