أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: اِعْتَدْدُتُ مِنْذُ سنوات: أنني إذا أردتُ تِلاوةَ كتابَ الله في أيِّ وقتٍ في خَلْوتي في بيتي، أوْ في المَسْجدِ وليس ذهني مَشغُولاً بشيئٍ: أنْ أقرأ على مَهْلٍ، وأنْ أُحْضِر عن يميني ورقاً وقلماً؛ وبعد تلاوة آيةٍ أو آيات في سياقٍ واحد عن موضوع واحد: أُعِيدُ ببصري وبصيرتي النَّظر فيما قرأتُه؛ فإنْ فهِمْتُه بلا لبْسٍ ولا إشكالٍ حمدتُ الله وتجاوزته؛ فإنْ عَسُرَ عليَّ فَهْمُه، أو فَهمتُه ولكن حصل عندي إشكالٌ فيما فَهمتُه: سَجَّلتُ رقم الآية من السورة، وكتبت حذاءها (لم أفهمها)، أو (فَهِمْتُها ولكن حصل عندي إشكالٌ فيما فَهِمتُه)، وأَذْكُرُ وَجْه الإشكال، ثم أستَمِرُّ في تلاوتي على ذلك النحو.
قال أبو عبدالرحمن: وكنتُ على مَنْهَجٍ واحدٍ فيما أقرؤُه، وفيما أكْتُبُه، وفيما أتَحدَّثُ به مِنْذُ حِذْقِي (نظريةُ الْمَعْرِفَةِ والعلم) - الضمُّ في مثْلِ هذا الموضع دائماً على الحكاية - التي عانيتُها منذ تَتَلْمُذي على كُتب الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى، ثم على ما تُرْجِمَ مِنْ كُتُبِ الفلاسفة، وكُتُب أهلِ اللغةِ عن معاني الْمُفْرَدَةِ، والصيغةِ (الوزن).. وكتبِ النُّحاة، وعلماءِ التصريفِ.. وكتب الْمُؤَلِّفِين في حروف الْمَعاني، وكتبِ الْمُؤَلِّفين في البلاغة، وكتب الْمُهْتَمِّينِ بأجه الدلالة ابتداءً من التحليل عن معاني الْمُفْرداتِ، وانتهاء بالتركيب عن دلالات الارتباطِ والسياقِ معهوداً ذِكْرِيّْاً (حضورياً، أو عِلْمِيّْاً)، واهْتَمَمْتُ بأوجهِ الدلالة أَيَّما اهتمام بالله ثم بحذقي (نظريَّةُ المعرفةِ والعلم)، ثم أرْجع إلى كتب أهل الأصول غيرَ مُعْتَمِدٍ عليها، بل أُزاحِمُهم في التأصيل؛ لأنَّ ما حذقْته من تلك المعارف أهْلِيَّةٌ أَعْتَزُّ بها، وأشكر الله عليها؛ وهي كتب الأصول في اللغة والنحو والصرف وعلم الكلامِ الْمُتَنَاوِلِ عقيدةَ القلب وتَصَوُّرَ الْجُزْئِيَّات مِن أحكامِ الدِّيانةِ التي تسبق الْحُكْمَ على ما تَصَوَّرتُه مِثْلَ الخلافِ في اشتراطِ النَّظرِ لِصحَّةِ الإيمانِ -؛ وهو مذهبُ ابنِ جريرٍ الطَّبري وجمهورِ الأشاعِرةِ رحم الله الجميعَ وعفا عنهم -، وَأَهْتَمُّ بدرجة المَعْرِفة والعلم من اليقين، إلى الرُّجْحانِ، إلى الاحتمالِ غير الْمُتعَيِّنِ بالبرهان.. ومُقْتَضِياتُ كلِّ ذلك: الإيجابُ، أو الامْتناعُ؛ لأنَّه مُحالُ، أو الاحتمالُ المُتعَيِّن، أو الاحتمالُ الْمُوجِبُ التَّوَقفَ.. هكذا هو مَنْهَجِي إلى أنْ اكْتَمَلَتْ مداركي وقُوايَ العقْلية.. وَقَدْ فُتِحَ لي بحمدِ ربي وشُكْرِهِ في مسائلَ كثيرةٍ جداً، وحصل لي ما تَغَنَّى به الإمامُ الْـحَبْرُ أبو محمد ابن حزمٍ قَدَّس الله روحه وَنَوَّر ضريحه؛ إذْ قال: (لذَّة الْعَالِمِ بِعِلْمِه)، وأطال النفسَ جِدّْاً في تعريفه السعادة بما أحْسِبُ أنه لمْ يُسْبَقْ إليه؛ وهو (طَرْدُ الْهَمِّ) في كتابِه النفيس جدّْاً جِدّْاً (مُدَاوَاتُ النفوسِ).
قال أبو عبدالرحمن: والمسألةُ التي لَمْ أَفْهَمْها، أو فَهِمْتُها ولكنْ أشْكَلَ عليَّ فهمها: أَتَفَرَّغ لِبحثها في سويعات نشاط أَتَقَصَّى بحثَها، وأَقْرِنُها بما جاء في معناها مِن نصوص الشرع.. ولا ريب أنَّ التَّفَرغ لمسألةٍ واحدةٍ باستقصاء: خيرٌ من مِئةِ ورقة في مسائل مُتَعَدِّدةٍ ليس فيها غيرُ النَّقْلِ عن فُلانٍ وفلان، وإنْ حَصَل ترجيح فهو بباديْ الرأْيِ.. ولا ريب أيضاً: أنَّ بحثَ تلك المَسْألة يُيَسِّرُ لك بحث مسائل كثيرةٍ سَتَرِدُ عليك.. وإنني بحمد الله أُحَبُّ الخيرَ للناس؛ فأرجو أنْ يَنْتَهِجَ أبناءُ مِلِّتي وَ نِحْلَتِي مَنْهَجي؛ ليفتح اللهُ لهم في شيىءٍ من العلوم الْعَمَلِيَّة كالطب وعلم الأحياء، أو ليكونوا أئِمَّةً إنْ كان تَخَصُّصُهم في واحد منها؛ ولهذا استطْرَدْدُتُ بهذا الاستطراد، وليحذر كلُّ واحدٍ أنْ يكون (نُسْخَةً زادَتْ في الْبَلَدِ)؛ وما أكْثَرَ هُم في بلاديِ السعوديةِ، ولا سيَّما أَحِّبَّائي مِن حَمَلَةِ العلمِ الشرعِيِّ.. وأعودُ إلى ما كنتُ فيه مِن كونِ الفرحِ غيرَ محمودٍ في الشرع حَسَب عددٍ من الآيات الكريمة في القرآن الكريم.. إلا أنه ليس على إطلاقه؛ لأنَّ ما يُمْدَحُ من فَرَحِ الْمُؤْمِنين أكثرُ من الفرحِ الْمَذْمومِ بِمُقْتَضَى السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ الصحيحة دلالةً وثبوتاً، الْمُبَيَّنةِ الوَحْيَ الْمَتْلُوَّ؛ وهو القرآن الكريم، ولا سِيَّما إذا تبيَّن لنا أن الفَرَحَ المَذمومَ في سبعَ عَشْرَةَ آيةٍ من كتاب الله محصورةٌ في حالاتٍ ضيِّقَةٍ ترتبطُ بأُمُورٍ مُحَرَّمةٍ كجحدِ نعمة الله.
قال أبو عبدالرحمن: وأبْدَأُ مسألتي هذه باللَّبِنَةِ الأولى مِن منهجي؛ وهي: تَصَوُّرُ مَعانيْ الفرحِ، وتَصَوُّرُ مَدَى إمكانِ التَّخَلُّصِ مِن الفرحِ المذمومِ؛ لأنَّ الظاهِرَ عند عامَّةِ أكثْرِ الناس: أنُّه لا يمكن للإنسانِ التَّخَلُّصُ مِن الفرحِ بنعْمَةِ أنْعمها عليه ربُّه سبحانه وتعالى؛ لأنَّ الفرحَ لذَّةٌ تَحْصُلُ في قلبِه مِن غيرِ اخْتياره؛ فأما تَصَوُّرُّ معاني الفرح فأبْدَؤُه بما قاله العلماء في ذلك.. قال الإمام ابن فارس رحمه الله تعالى: ((الفاءُ والراء والحاء [المُهْمَلةُ] أصلان يَدُلُّ أَحَدُهُما على خلافِ الحُزْنِ، والآخرُ الإثقالُ.. فالأوَّلُ الفرحُ، يقالُ فَرِحَ يَفْرَحُ فرَحَاً؛ فهو فَرِح.. قال الله تعالى: ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ (75) سورة غافر، والمِفْرَاحُ: نقيضُ الْمِحْزانِ.
وأمَّا الأصل الآخَرُ - وهو الإثقالُ - فالإفراحُ، وقوله عليه الصلاة والسلامُ: (لا يُتْرَك في الإسلام مُفْرَحٌ).. قالوا: هذا الذي أثْقَلَه الدين... قال [يعني الشاعِرَ]:
(إذا أنتَ لَْم تبرحْ تُؤَدِّي أمانةً
وتحمِل أُخْرى أَفْرَحَتْكَ الودائع)
[انظر مقاييس اللغة 4/499- 500 ط دار الجيل / طبعتهم الأولى عام 1411هـ].
قال أبو عبدالرحمن: لم يبيِّن ابن فارس وَجْهَ حَمْلِ (أَفْرَحَتْكَ) على معنى (أَثْقلَتْك بالدين)، ونسب ابن منظور في (لسانُ العرب) هذا البيتَ إلى (بَيْهَسٍ الْعُذْرِيِّ).
وقال الإمام الراغبُ الأصفهانيُّ رحمه الله تعالى: ((الفَرَحُ انْشِراحُ الصَّدْر بلذةٍ عاجلةٍ، وأكْثرُ ما يكونُ ذلك في اللَّذاتِ البدنيَّةِ الدُّنيوية؛ فلهذا قال تعالى: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ (23) سورة الحديد، وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا (26) سورة الرعد، ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ (75) سورة غافر، حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ (44) سورة الأنعام، فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ (83) سورة غافر، إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) سورة القصص.. ولم يُرَخِّصْ في الفَرِح إلا في قوله: فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ (58) سورة يونس، وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) سورة الروم.
والِمفْرَاحُ: الكثيرُ الفَرَح.. قال الشاعر:
ولسْتُ بمفْرَاحٍ إذا الخَيْرُ مَسَّنِي
ولا جازعٍ مِنْ صَرْفِهِ المُتَقَلِّبِ
وما يَسُرُّني بهذا الأمر مُفْرَحٌ ومَفْرُوحٌ به.. ورجُلٌ مُفْرَحٌ: أثْقلَهُ الدينُ.. وفي الحديث: (لا يُتْرَكُ في الإسْلامِ مُفْرَحٌ)؛ فكأَنَّ الإِفْرَاحُ يُسْتَعْمَلُ في جَلْبِ الفَرَحِ، وفي إزالةِ الفَرَح.. كما أن الإشْكَاءَ يُسْتَعْمَلُ في جَلْب الشَّكْوَى، وفي إزالتِها؛ فالمُدانُ قد أُزِيلَ فَرَحُه؛ فلهذا قيل: (لا غَمَّ إلا غَمُّ الدَّين). [انظر: (مُفْرَداتُ ألفاظ القرآن) ص 628 - 629 / نَشْرُ دارِ القلم بدمشق ط الرابعةُ عام 1430 هـ بتحقيق صفوان عدنان داوودِي.. قال أبو عبدالرحمن: لا يجوزُ وَصْفُ مُفْرداتِ القرآن بأنها ألفاظ؛ لأن اللفظ ليس مِن أسماء الله الحُسْنَى، ولا مِن أفعالهِ الاختيارية؛ وإنما التَّلَفُّظ مِن أفعال المخلُوْقين؛ ولهذا سأحيل إلى هذا الكتاب دائماً بمشيئةِ الله سبحانه وتعالى بعنوان: (مُفْرداتُ الْقُرآن).
قال أبو عبدالرحمن: البيتُ الذي ذكره ابنُ فارسٍ لِبَيْهَسِ العُذْرِيِّ، والبيت الذي ذكره الراغِبُ لِهُدْبة بن الْخَشْرم، وعزا مُحَقِّقُ (المفرداتُ) الأستاذ (صفوان) تخريجه إلى كتابِ ابن فارس الآخر (الْمُجْمَلُ)، ولم أَجِدْه في الطبعةِ التي لديَّ ط دار الفكر ببيروت عام 1414 هـ؛ وهي طبعة تجارية لا يُعْتَمدُ عليها؛ وطبعاتُ دار الْفكر كطباعة دار الكتب العلمية ببيروت يُرَوِّجُوُنَها بقولهم: (حَقَّقه فلان)؛ ثُمَّ لا تَجِد تحقيقاً، وتجد فلاناً نَكِرَةً، ومحقِّق (الْمُفْرداتُ) الأستاذ (صفوان) أحال إلى طبعةٍ لم أطَّلِعْ عليها في 3/720؛ فهذا يعني أنها ذاتُ أجزاء، والطَّبعةُ التي اطلعتُ عليها مُجَلَّدٌ واحدٌ ليس ذا أجزاء، ولم أجدْ الْـمُحالَ إليه في مادة فرح بالحاء الْمُهْمَلَةِ، ولا في مادة (فرج) بالجيم، ولا في مُفْرداتِ البيتِ مثلِ جازعٍ، وصَرْفِه.. وفي معنى المثل الذي أورده قولُ العامة (لا وِجَعْ إلّْا وِجَعْ الضرسْ، ولا همّْ إلّْا همّْ العِرْسْ)، وورد هذا المثلِ منسوباً إلى رسول اللهفي حديثٍ موضوع تقصَّاه الصاغاني في كتابه عن الموضوعات، والْعَجْلُونيُّ في كِتابِه (كشْفُ الخفاءِ والإلباسِ)، وإلى لقاءٍ قريبٍ إن شاء الله تعالى، والله الْمُستعان.