نجيب الخنيزي
على وجه العموم يمكن القول إنه لم ولن توجد جماعة بشرية متجانسة على نحو مطلق، وقد يصح ذلك على حال بعض الجماعات والقبائل البدائية المنعزلة، وبالتالي فالهوية ليست هوية ثابتة ومتجانسة أو جوهراً مفارقاً للمكان والزمان، كما لا يمكن حصرها في عنصر واحد بل تكمن في العديد من المكونات والعناصر المتجددة باستمرار في صيرورة جدلية متحركة بين الأنا والأنا من جهة، والأنا والآخر من جهة أخرى. إذن سؤال الهوية لا يطرح نفسه من خلال الحوار الداخلي (المونولوج) في المقام الأول بل يفرض نفسه إزاء الآخر، كما تتفاعل الهوية على الدوام مع متطلبات التغيير.
صحيح هناك سمات عامة مشتركة تضفي على هوية ما سماتها الخاصة كالأرض واللغة والدين والعرق والميراث الحضاري والثقافي، غير أنها في الوقت نفسه تقع على الدوام تحت تأثير عوامل خارجية مباشرة وغير مباشرة، في ظل كونية المعرفة والثقافة والاقتصاد والعلم، ناهيك عن تأثرها بطبيعة السلطة السياسية وآلياتها وتوازناتها الداخلية الناظمة.
من الوجهة الموضوعية والتاريخية لم يشهد العالم القديم والوسيط والمعاصر وجوداً لهوية متجانسة ونقية وفقاً لعامل وحيد عابراً للمكان والزمان، بل هناك على الدوام هوية مركبة، هي نتاج تفاعل جدلي للعديد من الهويات الفردية والخاصة التي تجمعها مصالح مشتركة.
وما طرحته الفاشية الهتلرية حول نقاء العرق الآري وما تطرحه العنصرية الصهيونية حول يهودية الدولة العبرية هو مجرد خرافة وأسطورة لا تمت للواقع بصلة.
ليس هناك من حل لتناقضات الهوية/ الأنا المتشظية إلا من خلال القبول بالتعددية وترسيخ قيم العقلانية والعدالة والمواطنة الكاملة والمتساوية في الحقوق والواجبات للجميع في ظل دولة مدنية حديثة.
الهوية بهذا المعنى متجددة وتغتني باستمرار من خلال جدل وتشابك وتداخل وتفاعل الأنا والأنا، والأنا والآخر.
على الصعيد العربي يتعين الوقوف أمام حقيقة كون غالبية الدول العربية هي كيانات وحدود تضم جماعات وموزايك إثنية ودينية ومذهبية ولغوية مختلفة دمجت في الدول التي نشأت وفقاً لاتفاقية سايكس/ بيكو ما بين بريطانيا وفرنسا عشية استعمارهما لغالبية الدول العربية، وإثر الاستقلال فإن قلة من البلدان العربية قد استطاعت أن تحقق انتقالاً سلساً باتجاه تشكل الهوية الوطنية.
الهويات الفرعية وسماتها وتجلياتها وتناقضاتها في عموم المجتمعات العربية هي ظاهرة موضوعية لمعطى تاريخي، اجتماعي، ثقافي قديم ومتجذر، قد تتراجع ويضعف دورها تدريجياً (لكنه لن يتلاشى) في حالات صحية وأوضاع مواتية وواعدة للجميع، وقد تنبعث وتتصاعد خطورتها في حال الأزمات والانهيارات الشاملة لتشكل تياراً جارفاً وحريقاً مدمراً يصلي بنارها الجميع.
كان الأمل والتفاؤل هو السائد في فترة تاريخية سابقة في حتمية تراجع الهويات الفرعية لصالح الهوية الوطنية الشاملة، وذلك في ظل طموح المشروع الوطني/ وتحقيق متطلبات تشكل الدولة «الحديثة»، دولة القانون والمؤسسات والمواطنة والتنمية المستدامة المتوازنة.
وقد لعبت تشكيلات الإسلام السياسي، وخصوصاً المتطرفة منها وفي مقدمتها «داعش» دوراً خطيراً ومدمراً للوحدة الوطنية والمجتمعية حيث تصدرت الهويات (الدينية والمذهبية والمناطقية والقبلية) الفرعية الفضاء السياسي/ الاجتماعي العام، وهو ما نجد تجلياته في تفجر الصراعات والحروب الدينية/ المذهبية، وبأبشع صورها المقرفة، والتي تذكرنا فظاعتها بالحروب الدينية وخصوصاً حرب الثلاثين عاماً التي شهدتها أوربا ما بين 1618 - 1648م.
استحضر هنا مقولة ماركس المشهورة «التاريخ لا يتكرر وإن تكرر، في المرة الأولى مأساة، وفي المرة الثانية مهزلة». أيعقل استنساخ مأساة الحروب المذهبية التي تفجرت في أوربا في القرن السابع عشر، ونحن في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، أنها حقاً لمهزلة!.
أتساءل هنا: هل كان الرئيس الأمريكي أوباما يستبطن في مخيلته تلك الحروب المذهبية في القرن السابع عشر وهو يتحدث عن أن القضاء على تنظيم «داعش» الإرهابي يتطلب 30 عاماً، أم أن المصالح الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة العربية تستهدف شيئاً آخر؟