عروبة المنيف
اهتم علم النفس الحديث وعلم تطوير الذات بالمشاعر والأفكار وتأثيراتهما السلوكية، فعملية تكوين الأفكار وترسيخها في العقل الباطن تعد عملية معقدة، إذ تلعب البيئة ومكوناتها الثقافية دوراً كبيراً في تشكيلها.
العديد من الدراسات التي قام بها علماء نفسيون وسلوكيون أكدوا قوة المشاعر وتأثيراتها السلوكية، وكيف أن شعوراً واحداً يعمل على خلق العديد من الأفكار المتضاربة في الوقت نفسه.
الكاتب ديفيد هاوكنز (فيلسوف أمريكي مهتم بالروحانيات) في كتابه «letting go»، والذي أنصح بالاطلاع عليه لاحتوائه على معلومات قيمة تتعلق بتطوير الذات، أشار إلى ميكانيكية سأطلق عليها «التخلي»، وهي الترجمة لعنوان الكتاب (letting go)، موضحاً أن تلك الميكانيكية هي ذلك الشعور المفاجئ بالارتياح الذي يعتريك، وكأن أطناناً من الهموم قد انزاحت عنك فتزداد سعادة وتشعر بحرية أكبر.
يصف هاوكنز تلك العملية من «التخلي» بأنها ميكانيكية حقيقية يعمل بها الدماغ، ومن الممكن أن يستشعرها الجميع، كأن تكون في معمعة نقاش حاد وفجأة تجد أن ما تفعله تافه فتبدأ بالضحك، فالضغط الذي كان يعتريك نتيجة ذلك النقاش الحاد قد تلاشى فجأة لأنك تخليت عن مشاعر الغضب والخوف التي انتابتك فأصبحت سعيداً وحراً.
يتساءل الكاتب، ماذا لو كان هذا هو حالك دائماً بحيث لا تسيطر عليك مشاعرك، وهذا ما يقصده في ميكانيكية «التخلي»، أي التنازل والتخلي بوعي تام وبشكل دائم عن المشاعر السلبية التي تنتابنا باستمرار.
يؤكد هاوكنز أننا نسير دائماً وفي حوزتنا خزان ضخم من المشاعر السلبية، ويكون ذلك الخزان عرضة للانفجار في أي لحظة، هذا الضغط المكبوت من المشاعر السلبية هو سبب أمراضنا ومشكلاتنا المستعصية.
قادني تحليل الكاتب إلى الربط بين الكبت المشاعري الذي نعاني منه في منطقتنا العربية وظاهرة الإرهاب المستفحلة لدينا، فتزايد الضغوط في مجتمعاتنا سواء كانت ثقافية أو اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو دينية وتمركزها في اللاوعي نتج عنها مشاعر معينة صنفت في أدنى مراحل الوعي، طبقاً لمقياس هاوكنز للوعي، هذه المشاعر تتلخص بمشاعر الخوف والشعور بالذنب.
تعد مشاعر الخوف طاقة تحمل معها خطراً يراه الإرهابي في كل مكان يحيط به، لذلك حسب التحليلات الخاصة بسلوكيات الإرهابيين تجدهم دائماً انطوائيين، قلقين، حذرين، لا يشعرون بالراحة والأمان وفي وضعية الدفاع عن قناعاتهم باستمرار.
أما الشعور بالذنب فيكون لدى الإرهابي دائماً حقل طاقي يريد من خلاله أن يعاتب نفسه والآخرين معه، فتقوده تلك المشاعر إلى رفض الآخرين والذي تقوده في النهاية إلى كره الذات، حيث يعد الإرهابيون أنفسهم بأنهم ضحايا مجتمع سبب لهم حالة من الغضب ما يجعلهم محبطين دائماً. السبب حسب الكاتب هو العكس تماماً، فكبت تلك المشاعر جعلهم يستغلون الأحداث ويختلقون الأعذار لتبرير تصرفاتهم الإرهابية.
إن تلك الميكانيكية «التخلي» بحسب تجارب الكاتب صالحة للتطبيق على الجميع، ففي هذا الكون الملئ بالتناقضات توفر لنا استقراراً داخلياً يساعدنا في التغلب على مشاعر الخوف التي تنتابنا، إنها حالة من الوعي التام بمشاعرنا بحيث نجعلها تطفو على السطح، نستشعرها ونتخلى عن الطاقة التي سببتها فنتخلى عن إطلاق الأحكام المرتبطة بها ونتأكد بأنه شعور فقط، إن تلك الميكانيكية تعني تقبل المشاعر وعدم مقاومتها ثم الاستسلام لكل الجهود المرتبطة بتغيير تلك المشاعر ما يؤدي بالتالي للارتقاء إلى شعور أخف لأن مقاومة الشعور عادة تعني استمراريته.
تطبيق تلك الميكانيكية «التخلي» تجعلنا نتعايش مع واقعنا، بحيث نكون في وضع من التسليم، فلا تتمكن المشاعر القوية من السيطرة علينا، فنقول مثلاً «لا بأس من حدوث هذا الشيء» أو «لا بأس أيضاً من عدم حدوِثه»، فنحن نفرح لحدوثه ولكننا لا نحتاجه لإسعادنا بحيث يصبح هناك تناقص تدريجي بين الاعتماد على شخص معين أو شيء معين خارج أنفسنا لإسعادنا ونصبح أكثر سعادة وخفة.
ميكانيكية «التخلي» لا تحتاج إلى دراسة وتلقين، إنها تنبع من دواخلنا من أجل التعايش السلمي.