د.خالد بن صالح المنيف
قبل عدة سنوات قضيت عيد الفطر في القاهرة وفيه زرت إحدى الحدائق العامة في أحد الأحياء الشعبية، وقد لاحظت هناك ميزة عجيبة في شريحة البسطاء ما وجدتها عند الكثير! فالصغار قد لفهم السرور وظللتهم سحائب الفرح فلا تسل عن الزهو وحجم المباهاة بتلك الملابس البسيطة الجديدة التي يرتدونها فتراهم غادين رائحين، حيث الضحك المتواصل والأرواح الطاهرة والأفئدة النظيفة متحابين متعاطفين، لا يشكون هماً ولا يندبون حظاً, وغير بعيد من هؤلاء الصغار كان الكبار يرتشفون مشروب (الشربات) باستمتاع عجيب والنكت تتراقص بينهم والضحكات تتعالى، وقد أدهشني هذا المشهد وأعطاني درساً لن أنساه في مهارة (الاستمتاع باللحظة) وفن (تقدير الموجود)، وأيقنت تماماً أن العبرة ليست بما نملك إنما بحجم تقديرنا له! وقد أكد هذا المعنى الشاعر الانكليزي جون ملتون صاحب ملحمة الفردوس المفقود بقوله:
في وسع العقل أن يخلق وهو في مكانه مقيم
جحيماً من الجنة أو نعيماً من الجحيم
ويذكر أن شيخاً كبيراً جاوز المائة من السنين سئل عن سبب تمتعه بتلك الصحة رغم العمر الطويل، فرد بإجابة جميلة عميقة وقال: إنه عندما ينهض من فراشه يعرف أن لديه خياراً عليه اتخاذه إما أن يكون سعيداً أو لا يكون وقال انه قرر منذ زمن بعيد أن يكون خياره على الدوام أن يكون سعيداً! وتلاحظ على الكثير تفضيلهم لخيار التعاسة والشقاء في حياته، حيث النفسية المتأزمة والوجه المكفهر والتصرفات الخرقاء وامتهان تصيد الأخطاء والسلبيات وتلمس مواطن الضعف في كل ما حوله! قدرة عجيبة على مهارة (تشويه الجميل) وعقليات لا تكن أي تقدير أو احترام للحياة! وهكذا تمضي بهم الأيام في دروب التعاسة والشقاء، لأنهم اختاروا أن يقيموا في مواطن البؤس ومستقر الألم..
ولن أنسى تلك الرحلة البرية قبل سنوات والتي صادفت أجواء ربيعية منتهى الروعة، حيث الرذاذ يداعب الوجنات والأرض قد راضها كف المطر فتوشحت برداء أخضر فغدت كعروس في ليلة عرسها، ولكننا للأسف قد اشغلنا أنفسنا طوال الرحلة بالشكوى والتوجع من مجموعة من الذباب!! فلم نتغنَ بالجمال ولم نستمتع بروعة المكان ولم نعطِ تلك الطبيعة حقها بسبب أمر تافه وقضية حقيرة ومعه فاتنا الكثير للأسف! وما أحوجنا أن نتعلم إستراتيجية (الاستمتاع بالموجود)! نسعد ونستمتع بأطياف النعم التي تتراءى بين أعيننا نرفل في نعيمها ليل نهار..
والحصول على السعادة لا يكون بتعمد تأجيل الفرح لغائب ينتظر ولمفقود يطلب، فتفاصيل الحياة عامرة بالأمور المفرحة، يقول أحد الفلاسفة من لم يسعد بما في يديه فلن يسعد بما سوف يأتيه في المستقبل!
جرب أن تتفاعل مع ابتسامة القمر ويقظة الفجر وحفيف النسيم وخرير الماء وابتسامة الصغير وتغريد الطير ورنة الحادي ومنتثر الورد.. استمتع بتقبيل رأس الوالدين وحضن الولد وحديث الصديق وغيرها مما يبهج الروح ويسر الخاطر مما تملكه وهي لا تعد ولا تحصى, والقاعدة تقول استخدم الشيء وإلا خسرته! وتلك الدور وهاتيك القصور والضياع والمراكب الوثيرة لن يكون لها أدنى قيمة ما لم يستمتع بها.
ومن أعجب ما قرأت في فن صناعة السعادة ما ذكر عن مجموعة من المساجين الذين حكم عليهم لمدة عشرين سنة أنهم كانوا يحتفلون يومياً بغروب كل شمس فرحين بانقضاء يوم من أيام سجنهم الطويلة!! لا ثياب جديدة تفرح ولا بيوت واسعة تبهج ولا أموال تسعد ولا صحة تسر.. فماذا نريد؟ ما أحوجنا أن نضحك كالصغار فالشيء الصغير يضحكهم وأحياناً من لا شيء يضحكون! وهذا ينبع من إحساسهم بأن كل شيء على ما يرام، فلماذا لا نكون مثلهم!؟
ومضة قلم
إن منظر الشاكر ونغمة ثنائه وحمده أوقع في السمع من العود في هزجه وأعذب من نغمات معبد في الثقيل الأول.
- (المنفلوطي)