د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
التأصيلُ يغني عن التفصيل؛ فحين تكون القاعدةُ نسبيةً فناتجها نسبيٌ يتبدل بتبدل الأزمنة والأمكنة؛ فالقراءة تسبق الكتابة بمعنى أن القراء يفوقون الكتاب وهذه قاعدة شمولية في زمن سبق، وحين توافرت وسائط قلَّ الفارق العددي بين القراء والكتاب في تساوقٍ مرحلي ومنطقي، ثم ازدادت الوسائط حتى صار الأكثرون كتبةً وكل يقرأُ نفسَه ولا يعنيه سواه.
- تتغير المعادلة بين الأزمنة مثلما تُسجل فوارق بين الأمكنة وتختلف من ثم اقتناعات ومعطيات، ويصعب علينا الجزم - وفق دلالات الصحة والخطأ- بوجود صورة مطلقة لا تأخذ في حساباتها ما يعنيه توارث الاختلاف الزمكاني والإنساني، ولكن القراءة اليوم نائية بمسافات ضوئية عن قراءات الأمس، وفيما كان هدفها قبلًا الاستزادة والاستفادة والمعنيون بها هم القلة فهي اليوم تستقطب الكثرة بوصفها جزءًا من حياتنا « التقنية « غير المتقنة ووسيطُها جهازٌ لا جاهزية.
- أراد صديقُه أن يستفيدَ من تصادفهما في صالات معرض الكتاب فسار به إلى منصة التواقيع وأراه عددًا من الموقعين والموقعات وسأله عنهم فلم يعرف أشكالهم وحمل إليه بيان أسمائهم فلم يُفده وأيقن بقصور متابعته فربما هم نجوم لم يرها بعدما تعددت وسائطُ النشر الرقميةُ التي لا تتطلب أكثر من لوحة مفاتيح وضغطة أزارير كي يكون لكلٍ منبرُه ومتابعوه، وليقينهم أن الكتاب هو الوسيط الأبقى فقد جاؤوا إلى العالم الواقعيِّ من آخرَ افتراضي دون أن يمروا بما مر به أسلافهم من معاناة الانتظار خلف بوابات النشر الموصدة أمام الأسماء الجديدة حينها، وهو ما كان يضطرهم إلى المحاولات المتكررة كي يجدوا منافذ تأذن بمساحة تحتوي دواخلَهم العقلية والوجدانية.
- قرأ ملاحظاتٍ حول فتح الباب مشرعًا أمام من لا أسماءَ لهم ولا وسوم ؛ فقد عُهدت التواقيع للكبار ممن أمضوا عمرًا وضاؤوا ذكرًا، وأيقن أن كلَّ زمنٍ يلد تقاليدَه الثقافية كما الاجتماعية ولا يعنيه استدعاءُ ذاكرة جيلٍ مضى أو ثانٍ سيمضي ولا بأس إن نال القاعدون حظ القائمين.
- لم ير المشكلةَ أن يُوقعوا بل الخوف أن يقَعوا وبخاصة من نتاجُهم خواطر مبتدئة و نصوصٌ خداجٌ لا إبداعَ تحمله ولا معاني تفتقها ولا إضافة ترسمها ولا يتجاوز معظمها خربشاتٍ تقودهم إلى أضواء الشهرة الخادعة، وربما سُقناهم إليها بتعزيزٍ عاطفي تسهم فيه الأسرة الرؤومةُ والأصدقاءُ المجاملون ودور النشرِ الربحية.
- توارت المعرفة الجادة والبحوث التأصيلية خلف غبار الراكضين خلف السراب في مشهد يشي بما وراءه من انقلاب الصورة الذهنية للتآليف والمؤلفين؛ إيجابياتُه كسرُ الرمزية المحتكرة من الكبار وفتح الدرب أمام المقتدر بمنأىً عن شهرته أو عمره أو مركزه، وسلبياته تضخيم الضآلة وتمتين الهوامش وهو ما يجني على الناشئ فيظنّ « بلوغَ المرام « عدسةً وابتسامةً وقلمًا يُمضي به انطفاءَه.
- الفراغُ ضجيج.