د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
(1)
** كانت ليلةً شتويةً باردةً ولصاحبكم فيها موعدٌ كي يعرض «تجربته القرائية» في مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، وتوقع ألا حضورَ؛ فالتوقيتُ والظرفُ ومسافاتُ الرياض تشفعُ للغياب وتؤذن بالإلغاء لا بالإلقاء، ولم يكن قد أعد شيئًا يقرأُه إلا عناوينَ على ورقة صغيرةٍ تساعده على تذكر المواقف التي نوى الحديث حولها، ومعظمها عن سلاسل فشله في الانتماء إلى هوايةٍ كمجايليه بعدما جرب الرياضة والكشافة والرسم وحلقة التحفيظ وغيرَها فلم يفلح في أيٍ منها، كما أن حركته في الشارع أو مع الأصدقاء محدودة وفق تعليماتٍ أبويةٍ حانيةٍ تراقبُ وتخشى وتسعى؛ ما جعل القراءة ملاذه الإجباريّ الذي لا يحتاج إلى عناء في ظل وجود مكتبةٍ منزليةٍ عامرةٍ ومكتباتٍ مدرسيةٍ وعامةٍ قريبةٍ منه ؛ وكاد يقترح الإرجاء وسيطًا بين «الإلقاء والإلغاء» لكن مرأى الحاضرين والحاضرات أجبره على ارتقاء المنصة وفاجأه - قبل أن يبدأ التقديمَ مديرُ الجلسة الصديق الدكتور فهد العليان (وهو مدير مشروع التجارب) - حضورُ الأستاذ الدكتور عبدالله الصالح العثيمين ؛ وتخيلوا: الوقت والظرف والمكان، ولا تنسوا أن منزله في «شمال الرياض» والمكتبة على طريق خريص، وقدِّروا موقف صاحبكم حين وجد أمامه قامةً علميةً رائدةً تفرغ نفسها لسماعِ ما لا يضيف ثم يطلب الكلمة معقبًا فيضفي وسامًا معنويًا غاليًا، ومَن لديه تسجيل اللقاء أو حضره سيستعيد خجلَ صاحبكم من عناء أستاذه واعتذارَه أمامه عن بضاعته المزجاة.
(2)
** موقف معبرٌ عن شخصية «أبي صالح» المتواضعة البسيطة التي لم تعنِها يومًا وجاهةُ النخب ؛ لا شكلًا ولا موضوعًا ؛ فليس ممن يهتم بالمظهر ولا ممن يُهمه التصدر، وربما طُرحت قضايا هو أعلم بها فآثر الصمت أو التداخل الهادئ، كما لا يدعي حين يُسأل عما لا يعلم بل إن أهون الأمور عليه أن يجيب : «لا أدري»، أما علاقته بالإنسان فوفاءٌ وبالمكان انتماءٌ لم تبدلهما المتغيراتُ الحياتية والوظيفية، ولا يخلص لأرضه وناسِه إلا من تسكنه الأصالةُ ويعتمره النقاء، وكثيرًا ما قال : « ودي أشاورك « فيأخذ رأي المقربين في موضوعٍ قد يكون أعرفَ منهم به، وهذه ملامحُ أخرى تشير إلى شخصيته الثرية الجميلة.
(3)
** مخزونه من الحكايات الشفاهية والمرويات الشعبية غزير، وهو شاعرٌ مجلٍ في الفصحى والعامية، مثلما هو مؤرخٌ غيرُ تقليدي استطاع - قبل أكثر من أربعين عامًا - تغيير نظرية سادت أزمنةً حول وضع وسط الجزيرة العربية قبل دعوة «الشيخ محمد بن عبدالوهاب» ؛ فقد مضت أجيالٌ أُفهمت أن المنطقة عاشت ليلًا طويلًا مليئًا بالجهل والخرافة، وسعت رسالة العثيمين للدكتوراه إلى تبيان الوجه الآخر المقابل لما عرضه «الشيخ حسين بن غنام « ومن سايره أو تابعه من المؤرخين القدامى والمحدثين بمنهجٍ متوازن وعلميةٍ حصيفةٍ أنصفت دور الشيخ ولم تظلم جهود متقدميه من العلماء والشعراء أمثال : «يحي بن عطوة وأحمد بن بسام الذي درّس الشيخ سليمان جدَّ الشيخ محمد والخلاوي وحميدان وآخرين»، مثلما حفظت بحوثه اللاحقة لمنطقة نجد تحديدًا خصيصتَها الثقافية ذات الطيوف والألوان المؤتلفة مع الدعوة والمختلفة عنها.
(4)
** اليوم يترجل الأستاذ الدكتور عبدالله الصالح العثيمين عن موقعٍ ارتقاه ثلاثة عقود أمينًا عامًا لجائزة الملك فيصل العالمية وقدم فيه ما جعله مرتبطًا بالجائزة مثلما هي مرتبطة به فأضاف إليها كما أضافت إليه، وتميز تقديمه للفائزين والفائزات بروحه المبدعة شعرًا ونثرًا جمع بعضها في كتاب، وربما كنا « أقصد محبيه « ممن أشفق عليه حين لم يترك العمل في الجائزة وقت اشتداد مرضه، وشهدناه يداوم في مكتبه ومعه جهاز التنفس المتنقل مثلما رأينا معاملات الأمانة تُعرض عليه في منزله ؛ فآن أن يسترخي قليلًا ؛ ولعل في فائض وقته الجديد ما نتمنى أن يخصصه لإكمال إصداراته الشعرية وبخاصةٍ شعرُه العروبي المبكر وبحوثه التأريخية ومقالاته السياسية كي نحتفي بها معه ليلة تكريمه في مهرجان عنيزة الثقافي الخامس المقرر عقده مطلع العام القادم بحول الله.
(5)
**سيبقى « أبو صالح «- قبل وبعد كلِّ مواقعه الرسمية في الجامعة والشورى والجائزة وما في فلكها - أستاذنا المضيء وصديقنا الكبير نتعلم منه الأناة في الحكم، والمرونة في التفكير، والمبدئية في طرح قضايا الأمة ونقاشها، وغيرتَه على اللغة العربية، وقيامَه - حتى في مرضه - بواجبات التشافي والتهاني والمواساة، وإنكارَ ذاته وعدمَ الاستعراضِ بإنجازاته أو الإدلالِ بمكانته وإمكاناته، وذكاءَ صمته وصوته وحضوره واحتجابه ؛ داعين الله أن يكلأَه بعنايته ويعجل في معافاته، وأن يعمر مجلسه وهو في صحةٍ وسعادة تامتين، مثلما نسأله تعالى التوفيق لحبيبنا الصديق الغالي الدكتور عبدالعزيز السبيل لإتمام مسيرة أمانة الجائزة بما عهد فيه من كفاءةٍ واقتدار .
(6)
** قيمةُ الكرسيِّ صاحبُه.