د.فوزية أبو خالد
ماء الدعاء
وصلتني عبر الواتساب والإيميل ورسائل الجوال ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى مئات التهاني بشهر رمضان المبارك أعاده الله علينا بحال أفضل، غير أنها لم تفعل إلا المزيد من تعميق الألم الناشب في حلقي المغروس بأحزمته الناسفة في خاصرتي المتوسع في علج شبكية بصري..
..أمامي عبر مختلف الشاشات بنيرانها الصديقة والعدوة معًا وهي توزع علينا شظايا أوطاننا من الشام لبغداد ومن مصراطه إلى صعدا ومن مصر إلى لبنان. فلم استطع حقيقة الرد، على أي منها سواء ما كان نسخًا لتهاني منمرقة بالخط العربي ومطهمة بالآيات ومضمخة بأنواع الورد والزهر أو ما جاء منها بصيغ أقل بذخًا وأكثر حميمية، إلا بكلمات شاحبة مقتضبة لولا القليل من ماء الدعاء.
سيسيولوجيا رمضان
طالما كتبت عن رمضان في معانيه العظيمة للمجتمع العربي والإسلامي وفي رمزيته العميقة كعامل أصيل في أركان الإسلام الخمسة من عوامل الوحدة الإنسانية بمعناها الديني والطبقي وبالمعنى العابر للحدود الجغرافية والمتعالى على التمايزات الانفصامية ببنائيها الرأسي والأفقي. وطالما كتبت عن سيسيولوجيا رمضان برمزيته الروحية وبمواجده الاجتماعية والثقافية في العاطفة والفكر والسلوك بمجتمعنا السعودي. ولطالما كتبت عن الشهر الفضيل بما يبعث في النفوس من مشاعر روحانية وبما يثير في الذاكرة الجمعية من مشتركات تاريخية ووجدانية وقواسم اجتماعية وثقافية في تقاليد وأنماط السلوك اليومي لشهر رمضان بما فيها من شعائر وما يمثلها من طقوس. بما يبتدي عند التوافق الإجماعي على شعائر السحور والإمساك والصوم والإفطار وصلاة التراويح والقيام وختمة القرآن إلى ما لا ينتهي عند تنوع طقوس السلوك الاجتماعي في تعدده الأسري والطبقي والمناطقي لتفاصيل النهار والليل الرمضاني.
كنت أكتب في سيسيولوجيا رمضان عن صيام الجوارح عن كل أنواع الحرام التي قد تنتهك كرامة الإنسان وأمنه في نفسه وعقله وعرضه وماله. كنت أكتب عن سيسيولوجيا رمضان في مستواها الذهني كتجربة نادرة على دربة المساواة موسميًا تجاه غريزتي الجوع والعطش والتعامل مع الهوى والشهوات. كنت أقرأ رمضان سيسيولوجيا كوقفة مراجعة جماعية لما يعتري «جسد الثقافة» وجسد السلوك الاجتماعي اليومي في العلاقات الاجتماعية صعودًا ونزولاً من ترهلات وتراكم شحوم الذل لغير الله والخضوع لأرباب المصالح الشخصية التافهة والباهظة أيضًا. كنت في كتابة سيسيولوجيا رمضان أبحث في شهر فضيل تحققت فيه الكثير من الانتصارات والخروج على الكبوات. رمضان السقوف العالية والأسوار الخفيضة، النوافذ المفتوحة والسطوح المتجاورة و»طعمة» الجيران وعشاء مساجد لا تخشى أحزمة ناسفة وحواري لا تترقب أيدٍ عدوانية طائشة. وصلوات لا تتخللها خطب التأليب والتأليب المضاد.
من السيرة الأسرية لرمضان
وكنت أكتب سيرتي الأسرية وذاكرتي الذاتية في رمضان بوهج أمي وبأنفاس نور ممتزجة بعرق عبدالله تحفني وأخوتي العشرة على موائد السحور والإفطار على طعام بسيط مبهر بحب جارف، مزعفر بحنان غزير، متبل بحزم لاذع، مبخر بعشق قوي خجول ومكلل بكلمات مرهفة معجونة بملح مشاحنات شفيفة مع كفاح يومي لا يلين للقمة حلال. رمضان التطلي الصارخ بعبير روح الموز ورائحة القهوة البواحة تتضوع بغموض القرنفل وحرقة الهيل. رمضان التراويح كما كتبت قبل عدة سنوات عن سيسيولوجيا التراويح قبل أن تنهبها رياح الصحوة في التسعينيات وتحولها إلى برج مراقبة لتقوى الجيران والتشكيك في ضمائرهم على أبسط أنواع اللبس المغاير.
رمضان مرايا الروح
ولطالما ساورتني بكلماتها الشاهقة الندية تلك الباسقة على المشراق المبدعة أميمة الخميس بأشواقها كلما أطل رمضان لكتابتي عن رمضان، مما خلق عندي نوعًا من الالتزام النرجسي إن صح التعبير لمعاودة التمري في بحيرات الروح من خلال ما لا يحصى من مرايا الوجد للذاكرة الجمعية ولذاكرتي الشخصية في العلاقة بشهر رمضان.
الحياء من رمضان
بيد أنني منذ انكسار أغصان الربيع العربي في صدورنا واحتراق ريش تباشيره في نيران الانقلابات المضادة له ولنا وتحول الوطن العربي من شعلة أمل إلى هشيم ينهش لحم الشعوب بالتناوب بين مخالب الخيبة وأسنان اليأس، أحس بأنني قد فقدت القدرة على النظر في وجهي، في غير مرأة الشك والريبة وقلق الأسئلة لولا رمق من المقاومة ينتزعه لي الحياء انتزاعا من قحة الحدث السياسي اليومي.
فكيف أكتب عن رمضان في مناخ فادح من اختلال موازين العقلانية في المنطقة بعمقها العربي وبعدها الإقليمي والدولي بأسره؟!. وبأي مفاتيح أكتب عن رمضان ومفاتيحنا كدمائنا معلقة تتخاطفها أيدٍ عمياء ومنها أيدينا تريد أن تمزقنا جغرافيا وتستنزفنا اقتصاديًا وتحول وفاقنا الأهلي احترابًا مذهبيًا وطائفيًا وعرقيًا، تطمس هويتنا الحضارية وتحول السلام إلى حروب مفتوحة.
المقاومة بالصيام
هل قلت في إحدى قصائدي بالثمانينيات في ديواني أشهد الوطن «هل هذه بلاد أو جحيم العشاق وجنة الأعداء» فماذا يمكن أن أكتب عن حالنا العربي في رمضان اليوم والشعوب متناثرة في ملاجئ حدودية رثة تقطر فقرًا وانكسارًا وإعاقات ومرارات. ماذا يكتب في رمضان والشعوب منكوبة في العراء أو مطمورة في السجون. ماذا نرى في المرايا الجمعية والذاتية لرمضان والشباب إما في عرض البحر تتناهشهم الحيتان ورحمة الدول الغربية أو في مدن وأرياف تلتهمهم نيران فكر ظلامي سفاح أو نيران أنظمة جائرة ماجنة قائمة على القرصنة والإجرام. وكأنه عقاب جماعي لرؤوس فكرت أن تينع
أذكر أننا بعد أن أعلنت أمريكا حربها على العراق عام 2003 وقد أسقط في يدنا ونحن نرى عودة الاحتلال العسكري إلى المنطقة من أوسع الأبواب الجهنمية وهي بوابة الإرهاب بنوعيه المنظم المتمثل في جيوش الدولة العميقة للهيمنة الأمريكية والإرهاب العشوائي المتمثل وقتها في القاعدة والشرذمات المشتقة منها، بأنني وثلة من الأصدقاء لما لم نجد وسيلة للتظاهر والاحتجاج فإننا قد لجأنا إلى الصيام كنوع من التعبير على الأقل فيما بيننا عن رفضنا للحرب وللاحتلال وعن تضامننا مع الشعب العراقي. فكم من رمضان نحتاج أن نصوم تضامنًا مع أبنائنا على الجبهة الجنوبية سعوديًا وتوحدًا في تنوعنا المذهبي والاجتماعي والفكري؟!. وكم قرنًا نحتاج من الصيام لنخرج على هيبة الخيبات وعلى الإرهاب المنظم والعشوائي.
رمضان هل وقفة تأمل لاستعادة الأمل
أو أخيلة الكتابة ولا الاستسلام لقتل العقل والخيال.