د. فوزية البكر
لا حديث للمجالس والناس هذه الأيام إلا (عادل إمام السعودية الجديد) القصبي وكاتب الحلقات خلف الحربي ومخرجها أوس الشرقي خاصة بعد أن تعرض فريق العمل للهجوم العلني على المنابر مما ضاعف أعداد المشاهدين ورفع سقف التوقعات. هذا النجاح لم يأت من فراغ بل سبقه عمل دؤوب ومتابعة لمجريات الأمور وشجاعة فريق العمل في أن يضعوا حبل المشنقة (فعليًا ومجازيًا) حول أعناقهم بتناول موضوعات شائكة يدور حولها جدل كبير مما لن يجعلهم بالضرورة محل استحسان الجميع.
يقابل هذا الصخب والنشاط والقدرة على الالتقاط في الساحة الدرامية السعودية ركود ما بعده ركود وخوف لا يماثله أي خوف وتوجس وميل إلى السبات يطغى على كامل المشهد الجامعي الحزين. جامعاتنا السعودية التي وضعت بفرضية أن تكون معملاً نشطًا يجيب على أسئلة المجتمع ويدرس قضاياه من كافة الزوايا ومن خلال الدراسات والبحوث العلمية للأقسام والأساتذة وبرامج الدراسات العليا تغط في سبات عميق لن يوقظها منه إلا بركان مزلزل يعيد تعريف الأدوار ويخلخل الصبغة البيروقراطية القاتلة التي دمرت نشاط هذه الجامعات وقيدته حتى قتلته.
كيف تمكن مخرج ذكي وممثل خبير وكاتب متمكن على ما لم تقو عليه 28 جامعة حكومية سعودية منذ إنشائها بالرغم من أنها تكلف ميزانية الدولة بلايين الريالات في كل عام؟ ما هو السر؟ ولماذا تقدم حلقات تلفزيونية ما لم نستطع نحن أساتذة الجامعات فعله رغم كل ما نكتب؟
ببساطة: إنها الحرية. ولو قدر لناصر أو خلف أو الشامي أن يكونوا تحت مظلة أو رعاية أية مؤسسة أكاديمية كجامعاتنا لمات العمل قبل أن يظهر.
كيف تمكنت حلقات درامية من تحقيق المعادلة الصعبة: إجبار الجميع على الانتظار كل يوم بشغف حتى تظهر الحلقة، تقديم مادة ثرية تثير الخلافات بين المشاهدين وتحفزهم على التفكر والتحليل والتأمل بعمق في ظواهر كانوا يقرؤون عنها ربما بسطحية في الصحف وفي الأخبار المتناثرة هنا وهناك ثم محاولة معالجة الظاهرة مع وبين الناس، يفعلون كل هذا فيما نقبع نحن في الجامعات خلف مكاتب هرمة وقوانين ولوائح إدارية ورقابية حولت جامعاتنا إلى مصانع لتفريخ خريجين يعرفون جيدًا في تخصصاتهم لكنهم يجهلون أي شيء آخر وتكتفي الجامعة فخرًا بأن تمنحهم شهادة التخرج.
لم تظهر دراسة واحدة متعمقة حول قضايا الإرهاب البشعة؟ لم يتجرأ قسم واحد على طرق باب أحد الأسر التي دمر الإرهاب أبناءها لتسألهم عن ماذا حدث ولماذا وكيف فر الابن أو الابنة إلى أحضان الشيطان، لم يتجرأ باحث على تشريح المناهج الدراسية أو العمل الصفي حيث تحولت بعض الفصول إلى معامل لتخزين الأفكار الإرهابية.. بل وصل الأمر إلى ألا يسمح للباحثين حتى بالتفكير في الموضوعات الشائكة ولماذا؟ لأنها شائكة؟ لأنها تحتمل أكثر من رأي ومن ثم تتكفل الأقسام المعنية واللجان والمجالس المختلفة التي يمر بها أي بحث حتى يتم إقراره بمئات المراجعات والتوقيعات واللجان التي تتفنن في قتل ما يحتمل نفسًا مختلفًا أو رؤية غير رائجة حتى تقتله فعلاً. ولن أنسي طالبتي النجيبة ملاك التي تم تشريح خطتها للماجستير حتى تحولت إلى أشلاء لا لون لها ولا طعم ولا رائحة مما حدا بالباحثة الدؤوبة القارئة إلى أن تكره كل العمل البحثي وتتنحى حتى لا تنكسر عن طريق الاعتذار مرات ومرات. وهكذا فليس فقط أننا هنا خسرنا باحثة متميزة بل وكلفنا ميزانية الدولة أكثر باعتبار فاقد السنوات الإضافية التي يمضيها الدارس في المرحلة أكثر مما هو مقدر كما حصل مع ملاك وآلاف الطلاب غيرها.
حان الوقت الآن لأن نصرخ بصوت مسموع ونجذب انتباه القادة الشباب في حكومتنا الفتية إلى ترهل الجامعات الحكومية بفعل القوانين التي تراكمت وتراكمت مع كل قيادة في كل موقع: جامعة وكلية وقسم ووزارة الخ. اللوائح مهمة لكنها متي ألغت الهدف الذي وجدت من أجله المؤسسة فلا جدوى منها. اليوم لا يستطيع أستاذ إلقاء ورقة أو عمل دراسة أو حضور مؤتمر إلا بموافقة من عشرات بدءًا من القسم وانتهاء بالوزارة؟ لا يمكن قبول موضوع بحث للدراسات العليا إلا بموافقات ومناورات بين الأطياف الفكرية المسيطرة على الأقسام والمجالس التي يغلب عليها إن لم يكن الفكر الإسلامي المتشدد فهو التقليدي السائد، لا يمكن ولا يمكن ولا يمكن وهنا مات البحث العلمي في الجامعات السعودية ومهما حاولنا شراء المراتب للرفع من درجة تقييم الجامعات المحلية في التدرج العالمي فلن يغسل هذا وجه الجامعات بل يلوثها أكثر. الحرية الأكاديمية شرط أساسي للدخول إلى الأقبية المظلمة في المجتمع وكشفها للنور مثل الإرهاب والمخدرات وحقوق المرأة والمشكلات الأسرية والفروق بين الأجيال إلى غيره من الموضوعات الملحة.
أحد الأدوار المهمة للجامعات أن تكون منبرًا حرًا تظهر من خلاله الأطياف الفلسفية والفنية والأدبية والاجتماعية إضافة إلى دراسة الظواهر الطبيعية في الطب والزراعة والهندسة وغيرها من البحوث التطبيقية وهذا ربما يحدث جزئيًا في الكليات العلمية التي لا تحتمل الدراسات فيها الكثير من الجدل الاجتماعي أو الاختلاف الفلسفي لكن الدراسات الإنسانية في جامعاتنا بعيدة تمامًا عمّا يحدث في العالم من تطورات في البحث وإضافة للمعرفة الإنسانية هي في العادة ما يقوم به البحث العلمي في الجامعات.
سلفي ليس فقط رسالة اجتماعية وأمنية مهمة بل هو نداء مقدم لكافة القطاعات المعنية بالشأن العام وعلي رأسها الجامعات لإعاده تعريف أدوارها وتقييم أثرها في الشأن العام وحتى تتمكن الجامعات تحديدًا من ذلك فعلينا أولاً أن نتعود على احترام رسالتها الأساسية وهي إشاعة مناخ البحث العلمي الحر.