د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
الأوضاع المأسوية في منطقتنا التي تأتي على الأخضر واليابس وتقود المنطقة نحو المجهول ليست وليدة الساعة وليست بلا أسباب. و قبل الدخول في صلب موضوعنا لعلنا نوضح بعض المفاهيم لنضع النقاط على الحروف كما يقال. وأولها هو أن الحرب والاقتتال أسوأ مآل لحل أي خلاف سياسي كان أو ديني أو اجتماعي.
وأن جميع أطراف الحرب تتضرر منها بما فيها الأطراف المنتصرة. أي بعبارة أخرى لا منتصر مطلقاً في الحرب. وأدركت هذه كثير من شعوب الأرض عبر تجارب تاريخية تشبه ما نحن فيه اليوم. فالحرب تعني الدمار المادي، و الفساد الأخلاقى، وخسارة أجيال كاملة، و ظهور أدواء نفسية واجتماعية تزعزع استقرار المجتمعات لزمن طويل وقد تفضي إلى حروب مستقبلية أخرى عندما تتحول الحرب لأسلوب حياة.
و عندما عجز العالم عن إيقاف الحروب التي تتناوب على إثارتها أسباب قبلية، أو دينية، أو قومية او اقتصادية لأن الدول لا تعدم تبريرات أخلاقية لحروب أسبابها الحقيقية في الغالب سلطوية مادية. فالحرب تعني في الأساس تحقيق مصالح ذاتية بممارسة العنف. أما التبريرات التي يسوقها إعلام الحروب فمهمتها جعلها مقبولة لدى الشعوب التي تدفع عادة ثمنها عدداً وعدة. وفي جميع الحروب وربما على إطلاقها يبقى أصحاب المصالح الحقيقيون بعيدين عن العنف ولا يتضررون بها إلا في الحالات الاستثنائية، بل وربما يتصالحون فيما بعد ويبقى العداء والثأر بين الشعوب، الجند الراجلة في الخطوط الأمامية التي تطالها الأدلجة الدعائية.
وعندما عجز العالم الحديث عن إيقاف الحروب بكل ما تحمله من تدمير للقيم الإنسانية، ونظراً لظهور أطراف مستفيدة بشكل مستمر من أشعالها، وبعد أن بلغت الصناعات العسكرية مداها وأصبحت بحاجة لاستدامة إنتاجها عبر إشعال الحروب، وضعت المنظمات الدولية أسساً وتشريعات للحروب تشبه تلك التي تنظم المسابقات الرياضية، وأسس الحرب المترحة ثلاث وصفت بعبارات لاتينية تتخذ من كلمة «bellum «الحرب» محوراً لها: قوانين ما قبل الحرب ante-bellum وتتعلق بالأسباب والدوافع للحرب أو ما يسمى اصطلاحاً «بمعايير الحرب العادلة» وهي الحجج التي تسوق لتبرير الحروب، كالدفاع عن النفس، أو الدفاع عن قيم إنسانية، إلى آخر ذلك من الدعايات السياسية. ثم هناك قوانين سير الحروب in-bellum وتتعلق بأمور مثل معاملة الأسرى، وحماية المدنيين، وحظر أسلحة الدمار الشامل أثناء المواجهات العسكرية وغير ذلك من الأمور المتعلقة بسير الحروب. وأخيراً أوضاع ما بعد الحرب post-bellum وهي التسويات التي تفضي إليها الحروب، وهي إن لم تكن عادلة تفضي حتماً لحروب مستقبلية فيما بعد حول التسويات ذاتها.
ونعود الآن للحروب الملتهبة في منطقتنا: منطقها؟ واقعها؟ أهدافها؟ وما يمكن أن تفضي إليه؟ فبعض الحروب في منطقتنا تسببت بها سلسة من التسويات غير العادلة وغير المنطقية لحروب سابقة كتسويات حروب الخليج المتتابعة. كالنزاع حول شط العرب ثم حروب العراق والحلفاء بقيادة أمريكا التي بدأت لرفع الاحتلال عن الكويت وهو أمر مشروع، ثم تحولت لمزاعم لم تثبت صحتها بوجود أسلحة دمار شامل تهدد البشرية. وتمت تسوية الحرب الأخيرة من قبل أمريكا وحدها بمعزل عن حلفائها بالمنطقة، وبها زرعت بذور الخراب التي نراها اليوم وذلك بالتسوية لصالح فئات متشددة مذهبيا ضمن طائفة بعينها على حساب مكون أساسي آخر عرف من البداية أنه لن يقبل بالتسوية.
طبعاً هناك حروب أخرى كان سببها اتساع الفجوة بين بعض أنظمة الدول الفاشلة في المنطقة وشعوبها كالنظام السوري مما حولها لأنظمة استبدادية أعمتها القوة الغاشمة والسلطة المطلقة عن رؤية الظلم الواقع على شعوبها، و كذلك ما عرف بدول الربيع العربي. وهنا يجب ألا ننسى الحرب الدينية التي شنتها إدارة ريجان على الاتحاد السوفيتي السابق واستنهضت فيها التطرف الإسلامي في أفغانستان وولدت القاعدة وأخواتها من التنظيمات الأخرى التي بقيت أداة سانحة لزعزعة استقرار المنطقة لتعارض ايديولوجيتها مع كل ما حولها و كل من حولها.
أما فيما يتعلق بسيرها فهي تمارس بعنف وبشاعة تخرج على كل القيم الدولية والإنسانية، و بأسلوب ميكافيلي فوضوي متقاطع الخطوط والمصالح جعل مهمة تحديد أطرافها ومهامها عملية غامضة إلى حد كبير. فالتطاحن الذي يتم على أساس مذهبي عقدي في الظاهر يخفي تحته أحقاد ومصالح أخرى تاريخية واقتصادية وسياسية وسعي حثيث لاستغلال الفوضى لتغيير الجغرافيا السياسية للمنطقة وفق التطورات الميدانية. فإيران، مثلاً، تتخذ الدفاع عن المزارات الشيعية والأماكن المقدسة في العراق كذريعة لتدخلها بالرغم من وجود هذه الأماكن والطوائف قبل حروب الخليج ولم تكن مثار جدل. وترى الأوضاع سانحة لتوسعها شرقاً. وأمريكا وإسرائيل تريان في ذلك فرصة لفرض هيمنة أبدية بإضعاف وتدمير وتقسيم الدول العربية، وهنا تتقاطع مصالح أمريكا، وإسرائيل، وإيران وإن لم تتطابق في كل الأمور. والطرف الثالث الطارئ هو داعش وهو مظلة جامعة لمجاميع كبيرة من البعثيين السنة الذين سلبتهم التسويات الأمريكية في العراق حقوقهم الوطنية بل ومواطنتهم أيضاً، ومجموعات من الميلشيات والعصابات الدينية المختلفة التي ترى في الحرب مناخاً جيداً للإثراء وممارسة السلطة والعنف وإقناع الأتباع بأن الأوهام الإيديولوجية التي زرعتها بينهم بعودة الخلافة قابلة فعلاً للتطبيق. والزواج بين الطرفين مؤقت يوحده عدو مشترك شُخِّص طائفيا. ولا ننسى أن الحروب تقدم مناخاً استثنائياً مغرياً للممارسات السادية والفوضوية كالقتل المجاني والاغتصاب.
ويتسم الفكر الاستراتيجي الإيراني المذهبي بخبث براجماتي كبير يضع الأهداف قبل الوسائل ويستثمر جهل وحماقات بعض التنظيمات السنية المتطرفة التي تقاتله طائفياً وترى نفسها في الوقت ذاته في حالة حرب مع كل من يختلف مع رؤيتها الضيقة المغلقة للعالم، أي جميع الديانات والمذاهب الأخرى. ومارست الإقصاء مع اليزيدين والمسيحيين والصابئة والأكراد وغيرهم، بل مارسته أحياناً مع بعضهم البعض الآخر؛ بينما تظاهرت إيران بالتسامح واحتضان هذه الأقليات لتظهر للعالم تسامح رؤيتها المذهبية مع أنها لا تقل سوءاً عنهم. ولذا فهي، في ظل هذه الفوضى، تدعم بعض فصائل في داعش لتبالغ في التوحش لأسباب دعائية، ولتنصب نفسها ظاهرياً كمحارب لهم و للإرهاب وأنها تقدم خدمة للعالم أجمع بذلك!! بينما عممت الممارسات غير العقلانية للشباب المتطرف المحسوب على السنة كتحطيم الآثار، وقطع الرؤوس على المذهب السني عامة.
إلى أين؟ لا أعتقد أن الحروب الآن قابلة لأية تسويات قريبة للتداخل المعقد للمصالح، ولأن الحرب أصبحت هدفا في حد ذاتها، أي أن الحرب خلقت دوافعها الذاتية، وأصبحت ممارستها بيئة جاذبة لكثير من التنظيمات التي لا تستطيع الاستغناء عنها، و لذا ستتضرر حتما بتوقفها. أما بالنسبة لإيران فهي مستفيدة من كل الأحوال من الحرب أو التسوية. فالحرب تسمح لها بالسيطرة الاقتصادية على نفط العراق وعلى موارد سوريا البشرية والطبيعية. وتسمح لها باستدامة الاستقطاب الطائفي وحشد مزيد من الاتباع من الشيعة العرب المعتدلين. وهي أيضاً تضع الحرب ككارت مهم لمفاوضاتها مع الغرب، ليس فقط حول تخصيب النووي بل أيضاً، كلاعب رئيسي في المنطقة، بل حول التسويات في المنطقة عامة من العراق لسوريا ولبنان إلى اليمن. أما داعش فسيتفكك حلفها في أي تسوية تمنح البعثيين السابقين وبعض عشائر السنة بعض الحقوق في العراق بحيث يحصلون على مناطق شبه سيادية يمارسون سلطتهم فيها في تقسيم واقعي للعراق لا يشترط أن يكون سياسيا، أما المليسشيات الإسلامية الأخرى فستبحث عن مناطق أخرى رخوة في العالم الإسلامي تنتقل له لأن الحرب بالنسبة لهم تحولت لإدمان وممارسة، واستثمار يصعب التخلي عنه، وهناك مناطق قادمة مرشحة لذلك كاليمن، وليبيا، وربما دول أخرى في حال تعرضها لعدم استقرار. و هي تحتاج استمرار الحروب لتجنيد مزيد من الشباب الصغار الذين يلاحقون حلم إعادة العالم لعهد الخلافة. يحدث هذا تحت أعين الدول الغربية وإسرائيل، والأولى تستفيد من اشتعال الصدامات والحروب لأن مجمعات تصنيعها العسكرية تتغذى عليها.