د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
الاقتصاديات العالمية، شمولية كانت أو رأسمالية تحرص على عدم خصخصة المرافق الحيوية التي تمس حياة المواطن مباشرة كالتعليم والصحة والكهرباء والماء إلا في أضيق الحدود وبأقصى درجات الحذر، وذلك حرصا على وصول هذه الخدمات للمواطن بالشكل المطلوب، بل إن هيئة الأمم المتحدة أدخلت بعضا منها ضمن حقوق الإنسان.
وخصخصة بعض المرافق تُحمِّل جزء من كلفة الخدمات على المواطن مقابل تحسين الخدمات التي تقدم له. وتبرر الخصخصة دائماً بالرغبة في رفع كفاءة القطاع المخصخص وتخليصه من الترهل الذي يقيد المؤسسات العامة، وتحرص الجهات المسئولة على أن تقدم الخدمات بالأسعار ذاتها أو أسعار مقاربة. فالخصخصة يفترض فيها أن تفتح القطاع المخصخص للمنافسة التي تساعد على تحسين الخدمات وضبط الأسعار. وهناك اتفاق على أنه لابد من تشريعات تنظيمية دقيقة توضح فيها الحقوق والمسئوليات قبل الخصخصة. ولذا تبقى القطاعات الحيوية المخصخصة تحت رقابة حكومية صارمة منعاً للتلاعب بها أو التقصير في أدائها أو التجاوزات في تقديمها. وتمنع التشريعات المقيدة عادة تشكيل كارتيلات من مقدمي الخدمات تتحكم في الأسعار أو نوعية الخدمات بدلاً من التنافس بينهم.
وغالباً ما يطالب الناس بخصخصة الخدمات الحكومية المتعثرة أو تلك التي لا تعمل بشكل صحيح على أمل تحسينها. وقد مرت المملكة بتجارب خصخصة متعددة منها ما انطلق بشكل صحيح ومنها ما زال ينتظر مزيداً من التنظيم، فهناك مثلاً، مطالبات متكررة بتخصيص قطاعات كالصحة والطيران رغبة في تحسين خدماتها التي يشتكي الناس من تراجعها. فالوافد اليوم يعالج في أفضل المستشفيات السعودية الخاصة بمرونة وسرعة يحسده عليها المواطن الذي يشتكي من طول الانتظار وتباعد المواعيد وتردي الخدمات.
و لكن وللأسف ما زال بعضهم يفهم الخصخصة على أنها استثمار للربح ورفع الأسعار فقط دونما تحسن يذكر في الخدمات أو راحة المواطن. وغالبية الجهات الخدمية في المملكة بما فيها الحيوية منها تعمد لإيقاف الخدمات عن المواطن لأسباب غير مقنعة كأن ترغمه على الدفع الفوري لفواتير حولها خلاف حتى ولو كان اعتراضه عليها مشروعا، وتقبل احتجاج للمواطن على خدماتها بعد الدفع فقط ثم يحال الأمر لجهات تحقق في الأمر تتبع للجهة ذاتها لتتم المماطلة فيه حتى يمل ويتوقف، أو يكون المبلغ صغيرا فيفضل التنازل عنه. لكن تراكم المبالغ الصغيرة لعدد كبير من المواطنين يجعلها تتحول لمبالغ طائلة يسيل لها لعاب بعض الشركات الخاصة. والشركات الخاصة لدينا عموماً لا تكتفي بقطع الخدمة عن المواطن لترغمه على الدفع بل تحيل اسمه لقائمة تدعى «سمة» لنظام الخدمات الائتمانية لتعمم معاملته كشخص غير موثوق ائتمانيًا لمجرد عدم دفع فاتورة!! وسمة تقبض من الشركة لإدراج المواطن ومن المواطن للاطلاع على سجله، بينما لا توجد في سمة خدمة تضع الشركات التي تسيء معاملة المواطن أو تهضمه حقه على قائمتها. فالشركات الخاصة لدينا هي الخصم والحكم وسمة تلعب دورا مشابهاً «لمحصل الديون» في الأفلام الأمريكية. فنظام كسمة لا يجب أن يتدخل في أمور تافهة كالفواتير وغيرها التي تخص المواطنين ويجب أن تقتصر خدماتها على الخدمات الائتمانية للشركات حتى لا تتحول لجهة لإرهاب المواطن لمصلحة شركات الخدمات. لكن سمة تستفيد من رسوم الخدمات ولا مانع لديها على ما يبدو من ضم حتى بسطات الخضار لخدماتها.
فقطع الخدمات الحيوية كالماء والكهرباء من أجل إجبار مئات آلاف المواطنين على دفع غرامات بشكل متكرر يعد عيباً واضحاً في تقديم الخدمة وخرقاً واضحاً لمبادئ التجارة العادلة التي تحكم عادة مبدأ الخصخصة والعلاقة بين التاجر مقدم الخدمة والمواطن الذي يتلقاها. ومن الملاحظ مؤخراً تكرر مخالفة المواطنين على ما يسمى بتسريب الماء خارج المنازل بشكل أصبح مثار جدل المواطنين وتندرهم حتى تحول لهاجس لهم، حيث تعمد الشركة الوطنية للمياه لإغلاق العداد حتى السداد بحجة الحفاظ على المياه، وهذا أمر جيد فيما لو طبق بالشكل المطلوب ولم يكن بتكرار المخالفات بشكل يظهر أن الغرامة 200ريال وليس الحفاظ على الماء هو الهدف. فالغرامة هنا تفوق القيمة الاستهلاك الشهري للمواطن العادي بشكل كبير. وقد تكررت مخالفة المواطنين بشكل أثار ريبتهم، بل تكررت مخالفة مواطنين حتى قبل إدخال عدادات الماء لبيوتهم!! وتمت مخالفة منازل تحت الإنشاء، أو أثناء التنظيف بعد الإنشاء!! والشركة لا توضح للمواطنين كيفية التصرف في ظروف كهذه ولا تساعدهم.
وتدور شائعات بين المواطنين أن الشركة تعمد لتحفيز المراقبين بعدد المخالفات التي يأتون بها، وأن هناك حدا أدنى لعدد المخالفات الشهرية المطلوبة من كل مراقب هو 60 مخالفة شهريا، بل ويقال: إن بعض المراقبين يتفق مع السائقين في الأحياء لإبلاغهم فور ملاحظة تسرب حولهم!! طبعاً نحن لا نعتقد إن هذا صحيحا ولكن نتمنى من التحقيق في ذلك لتطمئن قلوب متلقي الخدمة من الشركة.
ولي شخصياً تجربة فريدة مع مخالفات الشركة، فقبل عدة أشهر تلقيت مخالفة من شركة المياه الوطنية قبل دخول الماء لمنزلي تحت الإنشاء لما وصف بتسرب خارج المنزل ارتكبه حارس البناء من ماء اشتريته بالوايت، وعند الاتصال بالشركة أفادوني بأنهم مسئولون عن الحفاظ على المياه عموما تحت الأرض وفوقها ومهما كان مصدرها الشركة أو مال المواطن. مما يعنى أنك لو اشتريت وايتًا من حر مالك أو حفرت بئرا وتسرب منه ماء قليل في الشارع تدفع الغرامة للشركة! بالطبع تقدمت بطلب لإدخال الماء للمنزل بعد شهر فطلب مني تسديد «مخالفة ما قبل الخدمة أولاً»! وهذا ما نقصده بالتحكم في الخدمات الحيوية للمواطن لإرغامه على الدفع. وعندما تقدمت بطلب الخدمة ودفعت المخالفة استغرق توصيلها ما يقارب الشهر حيث تعاقبت أربع شركات مختلفة على توصيل الخدمة: شركة تحفر الشارع، أخرى تشبك الماسورة، ثالثة تردم الحفرة، والأخيرة تسفلت الشارع. نظام عجيب حقاً!! والأمر ذاته ينطبق على شبة مجاري المنازل. والعجيب أن الشركة لا ترسل للمواطن إخطارا بالكلفة الحقيقية لإيصال الخدمات ولا تمنحه حرية الحفر والشبك على حسابه، بل تكتفي بإضافة ذلك على فواتيره الاستهلاكية.
وبعد شبك الماء وقبل فتح العداد حصلت على مخالفة ثانية وعند مراجعة الشركة قيل لي: إن المخالفة سجلت على «الوايت» المتوقف أمام منزلي لتسرب الماء منه بسبب قدم ليات الوايت، وربط فتح العداد بدفع المخالفة مع رسالة تحذير بأن الإقدام على فتح العداد ذاتيا يترتب عليه مخالفة أخرى بقيمة 2000ريال. بل إن المخالفة ربطت بالفاتورة بحيث لا يمكن تسديد الفاتورة دون المخالفة!! ومع أني أحترم وأقدر حرص شركة المياه في الحفاظ على هذا المورد الهام حتى إني حفرت بئراً هماجاً لأستخدمه في البناء والتشجير حفاظاً على الماء المحلي الذي يكلف الدولة الكثير، إلا أني لم ألمس صراحة هذا الحرص على الماء عندما تعلق الأمر بماسورة شبكة انكسرت على بعد نصف كيلو من منزلي، وأخرى على بعد كيلين تقريبا، حيث أحالتا الشوارع لأنهار لأكثر من أسبوعين ولم يتم تحرك أحد لإصلاحها والأمر ذاته ينطبق على تسريبات مياه مجاري البيارات التي تخرج من كثير من البنايات في الشوارع الرئيسة حولنا ولا يشاهدها المراقبون. والأغرب أيضاً هو أن الشركة عندما تحفر مجاري المنازل لا تترك بها فتحات تتسرب من خلالها التسريبات للمجاري الرئيسية للاستفادة من تكريرها فيما بعد، فلا يوجد في الشوارع فتحات مجاري عامة فتبقى التسربات أمام المنازل لأيام حتى يجففها البعوض. وأخيراً ليت الشركة تدل المواطنين على أفضل السبل لتنظيف منازلهم بعد الأجواء المغبرة، فحسب علمي لا توجد خدمة «دراي كلين» للمنازل.