إبراهيم عبدالله العمار
تقول العرب: «زامر الحي لا يطرب». ويقول الإنغليز: «العشب دائماً أكثر خضرة على الجانب الآخر». أمثال تصف حال الإنسان، ذاك الكائن الملول.
أعط الإنسان شيئاً وسيريد غيره. ما أسرع زهده بما في يده. كائن لا يدري ما يريد. يعيش في خيمة ويريد شقة؟ يفرح بها بدءاً ثم يطمع في بيت. حصل على بيت. ما أن يرى قصراً بديعاً حتى يحتقر بيته ويتمنى القصر.
يا لتقلبك! ماذا تريد يا إنسان؟ ماذا يكفيك؟ هل يُشبع طمعك شيء؟ أهناك سلعة لن تريد بعدها شيئاً؟ أهناك حد من المال لن تطلب أكثر منه؟ قال عليه الصلاة والسلام: «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً». مقولة تصف حال الإنسان بدقة: لديه مقدار واديين من ذهب.. واحد منهما يكفي.. بل رُبعه يكفي.. بل إن عُشر معشار الوادي يكفيه وأهله وذريته إلى يوم القيامة. لكن يرى الإنسان هذا الجبل من الذهب فلا تمتلئ عينه ويطمع في جبل ثانٍ وثالث ورابع! انظر لحال بعض من وصلوا للستين والسبعين والثمانين من العمر وهم يلهثون وراء المال لهاثاً، سمعت عن أحدهم من التجار.. خسر جزءاً صغيراً بل ضئيلاً من ماله فأصابته وعكة كادت أن تقتله. أدركتُ صدق الدعاء: اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا.
قال الله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ}. حب المال طبيعي، لكن عشقه، إدمانه، التضحية بكل شيء من أجله (بما في ذلك الصحة والأصدقاء والأهل) ليس فطرياً. كم من عهودٍ نُقضت ووعودٍ كُسرت وحروب أُشعلت وبيوت هُدمت بسبب الهوس بالمال. يبدأ المال بأن يكون مصدر متعة بسيطة في الطفولة تشتري به الحلوى حتى يتحول - إذا لم تكبح جماحه - إلى سبب للحروب والمذابح بين الدول! ما أعظم هذا الدين الذي حقَّر المال في أعيننا وبيّن لنا تفاهة المُتَع العابرة التي يأتي بها المال. إنه مبدأ واقعي وبالغ النفع لنفسية الفرد والمجتمع.
يستمر هذا الطبع في الإنسان إلى يوم القيامة. في الحديث الصحيح عن آخر من يخرج من النار أنه يدعو أن يخرج منها، فيخرجون به – بأمر الله – إلى مكان قريب منها، وهذا لوحده أعظم نعمة لأهل النار، ونكمل الحديث نصاً، فيقول هذا الرجل: أي رب، اصرف وجهي عن النار فإنه قد قشبني (آذاني) ريحها، وأحرقني ذُكاؤها (وهجها). فيدعو الله ما شاء أن يدعوه، ثم يقول الله: هل عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسألني غيره؟ فيقول: لا أسألك غيره. ويعطي ربه من عهود ومواثيق ما شاء، فيصرف وجهه عن النار، فإذا أقبل على الجنة ورآها سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب، قدمني إلى باب الجنة. يقول الله: أليس قد أعطيتَ عهودك ومواثيقك أن لا تسألني غير الذي أعطيت؟ ويلك يا بن آدم، ما أغدرك فيقول: أي رب. ويدعو الله حتى يقول له: فهل عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسألني غيره؟ فيقول: لا وعزتك. فيعطي ربه ما شاء من عهود ومواثيق، فيقدمه إلى باب الجنة، فإذا قام على باب الجنة انفهقت (انفتحت واتسعت) له الجنة، فرأى ما فيها من الخير والسرور، فيسكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: أي رب، أدخلني الجنة. فيقول الله سبحانه: أليس قد أعطيت عهودك ومواثيقك أن لا تسألني غير ما أعطيت. ويلك يا بن آدم، ما أغدرك.
يظهر أنه طبعٌ شديد الرسوخ.. لا ينتهي حتى في يوم القيامة!