خلق الإنسان من طين، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ} (12) سورة المؤمنون، ولكن فيه نفخة إلهية {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} (29) سورة الحجر، ولذلك فيه كدر الطين كما فيه سمو الروح، فطينه يتثاقل به إلى الأرض والدنايا، وروحه تسمو به إلى مدارج النقاء والطهر.
فمنذ أن خلق الله الإنسان فإنه يتصارع فيه الخير والشر، أحياناً ينتصر هذا وأحيانا أخرى ينتصر ذاك، والله تعالى العليم بعباده يعلم فيهم هذا، فلم يطالبهم ألا يخطئوا أبداً ولكنه طلب منهم إذا أخطئوا أن يرجعوا ويستغفروا قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (135) سورة آل عمران، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) أخرجه الترمذي وابن ماجه.
والظلم، الفسوق، الغلول، التعدي، الفساد، القهر، الأنانية، كلها كلمات تشمئز منها النفوس وتنقبض لها القلوب ولا يرضى بها أحد إلا إذا اسودت النفس ومات القلب وانطمست فيه الفطرة السوية التي خلق الله عليها الناس.
ومن الجانب الآخر نجد أن أكره الأمور وأشدها بغضا إلى نفس سوية وأكرهها إلى قلب نقي هي الظلم والفساد، ذلك أنهما يشملان كل تلك الكلمات البغيضة التي ذكرناها.
ديننا الحنيف يحذر من الظلم وينهى عن الفساد، فالآيات الكريمة بنصها القطعي تنهى عنه وتوضح أن عاقبته وخيمة {وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} (57) سورة آل عمران، {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}، والأحاديث النبوية متعددة قال صلى الله عليه وسلم (اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة) رواه البخاري، وقال (إن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته) رواه البخاري، فالآيات والأحاديث النبوية التي تحذر من الظلم وتلفت إلى عواقبه الوخيمة كثيرة باعتباره يمثل قمة الفساد، ويؤدي إلى الإخلال بالاقتصاد وبأخلاقيات المجتمعات بل ويطول أثره كيان الدول.
إن الله قد خلق الإنسان على الفطرة فهو بطبيعته التي خلقها الله عليها يميل إلى الخير والعفة والطهر والعدل والإنصاف والرحمة والمساواة، فإذا وجدته يميل إلى غير ذلك من الظلم والشر والجور وعدم الإنصاف، أي أنه يميل إلى الفساد والإضرار بالناس وظلمهم، فاعلم أنها ليست الفطرة التي ولد عليها ولكنها صفات اكتسبها إما من أهله أو مجتمعه أو عُلِّمت له تعليما أو صبغ بها أثناء ممارسته الحياة، فتبدل البياض في داخله سواداً والعدل ظلماً والرحمة قسوة والإيثار أثرة، فأصبح لا يهمه إلا نفسه ولا يرى إلا ذاته، فهو منكب على داخله ليرضيه وعلى ظاهره ليزينه بأنواع الترف والمباهج والملذات، غير مهتم إلا بمنفعته فمنفعته أولاً ومنفعته ثانياً وثالثاً وأخيراً.
ولأن الله جلت قدرته نهى عن الظلم في نصوص قصصية فإن العدل هو الأمر المبتغى في الإسلام الذي هو العدل كله، ولذا فإن النقد إذا كان بناء مطلوبا ومرغوبا لأن فيه ديننا بناء وتطوير وتنوير، وإذا كان غير ذلك فإنه مرفوض، لأنه يعمل على التشويش وخلط الحقائق ولذلك فإن محاربة الظلم الفساد أمر واجب لأن الله سبحانه وتعالى حمل الإنسان الأمانة فحملها بعد أن عرضها حلت قدرته على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملها قال تعالى {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (72) سورة الأحزاب.
وما قرأته وقرأه غيري في جريدة الرياض العدد 17131 تاريخ 2 شعبان 1436هـ بشأن تقرير اللجنة المحايدة التي صدر بشأن تشكيلها قرار وزير الصحة السابق دكتور محمد بن علي آل هيازع على اتهامات عضوتين في مجلس الشورى ضد مستشفى الملك خالد التخصصي للعيون وما انتهت إليه تلك اللجنة المحايدة إلى تبرئة المستشفى وإدارته من كل الاتهامات، بل إن اللجنة قدمت في تقريرها ثناء حارا على أداء ذلك المستشفى الذي أطلقت عليه مصطلح (العالمية) إذ انه يماثل كما قررت اللجنة أفضل المستشفيات المتميزة على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية.
هذا التقرير جاء ليدحض الاتهامات التي وجهت لذلك المستشفى العملاق وإدارته التي برأت بل وأثنى عليها ثناء عاطرا لحسن إدارتها الطيبة والإدارة والمالية والفنية، مما يؤكد أن المستشفى يطبق الإدارة الحديثة في إدارة هذا الصرح الطبي المتميز الذي يحمل اسم الملك خالد -رحمه الله- ورغب أن يكون في مصاف المستشفيات الطبية المتخصصة في طب وجراحة العيون على المستوى الدولي، وبالفعل فقد بلغها وهذا تميز يذكر لبلاد الحرمين الشريفين التي تنفق بسخاء على القطاع الطبي في طول البلاد وعرضها.
وعلى ذكر الإنفاق على القطاع الصحي فقد لفت انتباهي ما جاء في التقرير الذي نشر ملخصه في جريدة الرياض، إذ جاء به أن ميزانية المستشفى أقل من مليار ريال سنويا، وهذا منافيا تماما لما ورد بمداخلة أحد أعضاء المجلس بأن ميزانية المستشفى تبلغ (15) مليار ريال سعودي.
وإذا كان تقرير اللجنة المحايدة التي شكلها وزير الصحة السابق قد انتهت إلى نتائج تؤكد أن المستشفى يعتبر مرجعا عالميا أسهم في تخريج أكثر من 50 في المائة من القوى العاملة في ميدان طب وجراحة العيون، وهو مرجع علمي عند أطباء العيون في أنحاء العالم، بل إن اللجنة أوصت بإنشاء مستشفيين متخصصين على غرار المستشفى في المنطقتين الشمالية والجنوبية لتوفير الرعاية والمتابعة لمرضى العيون في مناطقهم، فإن هذا شهادة طبية وإدارية ومالية وقانونية للمستشفى يجب أن يذكر بها.
إن اللجنة المحايدة وهي تستطرد منجزات المستشفى ووصفته بمشروع صحي ساعد الآلاف من مرضى العيون على استعادة الإبصار فيه رد طبي وقانوني ونظامي على اتهام المستشفى (بالتسبب في إصابة المواطنين بالعمى بدلا من علاجهم) فكيف بمستشفى يوصف بـ(العالمية) على قدم المستوى مع مستشفيات أمريكا في نفس التخصص يطلق عليه هذا الوصف وهو يقوم بتدريب الأطباء المقيمين في التخصصات الدقيقة ويمنحون شهادات البورد السعودي في طب وجراحة العيون والتخصصات الدقيقة كما أكدت ذلك اللجنة الطبية المحايدة.
المستشفى لم يبلغ هذا الصرح الطبي ما بلغه بين عشية وضحاها وإنما خلال عقود من الزمن، ومن خلال تعاونه مع مراجع طبية عالمية كجامعة هوبكنز فاللجنة قررت أن التعاون بينهما رفع من مستوى الأداء في المستشفى ودعم مجالات التعليم والتدريب للأطباء السعوديين في (هوبكنز) ناهيك عن أعداد البحوث التي عرضت في لقاءات طبية عالمية وتم نشرها في مجلات علمية مختلفة، وهذا منح المستشفى سمعة دولية، ففي عام 2013 لوحده قدم أطباء المستشفى 30 بحثا في الأكاديمية الأمريكية لطب وجراحة العيون إضافة إلى عرض أوراق علمية في مؤتمرات عالمية ومحلية لنفس العام بلغت 120 ورقة وتم نشر 115 ورقة في مجالات علمية محلية ودولية.
ولأن جامعة هوبكنز طرف في علاقاتها بالمستشفى وما يمس المستشفى يعنيها فقد وجه مركز ويلمز لطب العيون في جامعة هوبكنز خطابا لوزير الصحة السابق بشأن تلك الاتهامات للمستشفى مؤكدا اعتراضه الشديد على ما ذكر مؤكدا أن جميع الأبحاث بالتعاون بين جامعة هوبكنز ومستشفى الملك خالد التخصصي للعيون من أكثر الأبحاث تطورا في العلم والمعرفة.
المهم أننا كمسلمين يجب أن نظن بالناس خيراً ونبتعد عن سوء الظن كما عرفه ابن كثير هو (التهمة والتخويف في غير محله، وعدم التحقق في الأمور، والحكم على الشيء بدون دليل)، وعكسه حسن الظن فهو من شعب الإيمان والعاقل يحسن الظن بإخوانه، وسوء الظن بالناس يجرئهم على الظلم والفساد.
إذا الظن السيئ يخالف الحق والهدى الذي جاء من عند الله عز وجل فهو من الباطل المذموم قال تعالى {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} (27) سورة ص، ولا شك أن سوء الظن إذا كان بغير دليل ولا برهان فإنه يذم، أما ذا كان مستندا إلى أدلة ظاهرة وبراهين قوية وحجج قاطعة لا تقبل التشكيك فلا يذم، بل إن ذلك يعد من الحرام والبصيرة في رؤية الأمور على حقائقها.
افترض دائما بالناس حسن الظن والتروي والدقة في الأمور والتثبت بالوثائق والمستندات الشرعية والنظامية والإدارية والمالية، فكل قول أو ادعاء بدون مستند يثبت ذلك الادعاء أو الدعوى هو باطل بطلانا مطلقا، ولا يحق لموظف أو قائد إداري أو غيره أن يطلق الادعاءات جزافا مستغلا منصبه أو وظيفته التي هي أمانة في عنقه سلمها له ولي الأمر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (27) سورة الأنفال.
- رئيس مركز العربي لدراسات واستشارات الطاقة