رمضان جريدي العنزي
إيران تسير بممرات ودهاليز وحفر لا أول لها فيها ولا آخر، تبحث عن أعشابها الصغيرة اليانعة في مجاري السيول الكبيرة، تحاول ترقية نفسها بتنهيدة فراشة، لكنها لا تعرف بأنها تحرق نفسها بنيران الحطب المتوقد، إيران ليس لها شمس دافئة ولا فصول تلمع برائحة الأماني، لا نبض للحياة فيها غير الخريطة بين الولادة والممات، هي تتدثر بعزلتها في أقبية الليل الطويل، تحاول أن يضاجع السحابة، لكنها لا تقوى على الحراك الجميل، تستميت في أن تنحت أسمائها وتركل إلى الخلود في شهوة محيرة، لكنها تتعرى من لحاء نقيضها وجرتها المليئة بالفجيعة وبالنعاس، لرغباتها الجائعة تلوث، تحاول بعجز نسف الأمكنة، لا تحاول أن تصحو من غفوتها ولا تحاول أن تعود إلى رشدها أو أن ترمي الماضي المؤلم خلف ظهرها، لكنها تصر أن تكون حمالة للغدر والدمار والخراب وفاتحة للنهايات الخطيرة، تتحرك بصوت ملوث يشبه صوت ريح أعاصير قادمة، لكنها بلا رشاقة ولا حذر، هي تتخيل بسقم، وتحلم بفاكهة رمان وماء عذب ونيزك يشع بهاءً وبريقاً، وحناء تشبه حناء النساء الجميلات، مفتاح الحل بين يديها لكنها لا تحدق بحدة، في عيونها غبش وبعض ماء أزرق، لا تقيس بدقة بعد المسافات، تضع نفسها أمام النوافذ الكبيرة لتصفعها الرياح العاتية بقوة وبلا هوادة، أبخرة الرغبة المودعة في جوفها لها رائحة غير نقية، لأن الهواء الناقل لها بغيض، فشلت كل محاولاتها لإنتاج التفاح والورد وأعواد القصب، وأخذت تزرع براعم صغيرة مبهمة خطيرة في أول الربيع سرعان ما سوف يدهمها الشحوب، يأتيها من الأعلى بهبوط بطيء حتى يتمكن منها فتصبح مجرد عيدان رقيقة مغروسة في أرض بوار، إيران على الرغم من هذا تحاول أن تصطنع فجوة من اللامبالاة الذي هو شيء آخر لا علاقة له بتركيب الأدمغة وقوة الذاكرة، إيران حتماً ستشيخ مثل شجرة ورد حتى لا يعد هناك زهور بيضاء ولا زوار منتظمون، ولا فراشات ملونة صغيرة ولا نحلات، وحدها ستخفق بجناحيها مرة أو مرتين أو ثلاثة وبعدها ستستقبل قليلاً من العزاء، ستكون مواساة لطيفة لمواسم ضجيجها المر، هكذا تبدو الأمور، المحزن أنها لا تفكر بغرس شتلة ورد نقي، بقدر ماهي مشغولة بزراعة أشياء أخرى غامضة يصعب تخيلها، تفكر كثيراً بإعادة حرث تربة هذه النبتة البغيضة تقلب تربتها ولا تحاول أن تجعلها تتنفس هواءً جديداً، هي تحاول تقليبها كي تصبح في نظر الآخرين ناعمة تحتضن الشتلات، حتى لو كانت ببيت زجاجي رقيق، لن على إيران أن تفهم بأن الزهور لا تطالب أبداً بثمن للبهجة التي تشيعها، أن عليها أن تكون حاذقة، لأن ما زرعته يعد خطأً فادحاً بوسع المرء أن يتلمس بتفرد جذعه الخارجي، أن ثمة أشياء أكاد أحسها بدقة متناهية تحاول أن تشيعها إيران في قلب حديقتنا العربية الواسعة، كالعبث المليء بالفطريات والحشرات وبعض الأمراض الخبيثة، أن على إيران أن تدرك أن التراخي والخدر المغلف بالحكمة والحلم الذي كنا نعيشه لم يسقطنا في إغواءاتها الضبابية العميقة، لأننا كنا ننصت لدواخلنا في لحظة هادئة بمشاعر متوازنة بما يكفي لاكتشاف تلك الحكمة وذلك الحلم، وعندما أكتشفنا أن اليقظة واجبة، والحزم حق، والقول فعل، ساعتها تحولت حكمتنا وحلمنا إلى ريح عاتية حطمت كل النوافذ المشبوهة، وأخرست الألسن البائسة، وكسرت الأقلام الصفراء الباهتة، وأوقفت العقول البليدة، وهدت معاقل الشر، وأغلقت منابع الظلام، وأخرست كل الأصوات النشاز.