محمد سليمان العنقري
ذكرت في المقال السابق أن دور المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني ضعيف بمعالجة البطالة، وتحديداً من حيث حجم أعداد المتخرجين من برامجها قياساً باحتياجات سوق العمل، وأن لذلك أسباباً عديدة، منها استيعاب الجامعات لنسبة كبيرة من خريجي الثانوية العامة، وهو الأمر الذي أوضحته المؤسسة بتقريرها قبل أيام، إضافة إلى عدم ربط معاهد وكليات المؤسسة بالمفاضلة العامة حتى تتحول نسبة من المتقدمين لها إلى معاهد وكليات المؤسسة.
وسأحاول في هذا المقال التركيز على الحلول المساعدة لرفع نسبة المهنيين والتقنيين من المواطنين بسوق العمل.
فالمؤسسة مهما اجتهدت سيبقى دورها من حيث التأثير بالنسبة للكوادر البشرية المهنية محدوداً في ظل ظروف دورها الحالي، رغم أنها ركزت على برامج استطاعت أن تصل بنسبة من يجدون عملاً من خريجيها إلى 92 في المئة وفق إحصاءاتها، وذلك من خلال برنامج شراكات مع القطاعين العام والخاص على مبدأ التدريب المبتدأ بالتوظيف، أي تدرب شباباً وشابات تم التعاقد معهم من جهات حكومية وخاصة بوصفهم موظفين يتم تدريبهم بمنشآت المؤسسة لصالحهم، كشركات أرامكو ومعادن والكهرباء والنقل الجماعي.. إلخ، لكن ستبقى الأعداد التي تنتفع بهذه البرامج مرتبطة باحتياج تلك الشركات، أي بنسب بسيطة قياساً بحجم المتدفقين لسوق العمل سنوياً، وأيضاً نسبة البطالة الحالية عند 11.7 في المئة المرتفعة قياساً بحالة الاقتصاد الوطني الجيدة. كما اتجهت المؤسسة نحو افتتاح كليات التميز بنوعية تدريبها ومخرجاتها. وإذا ما وُفقت المؤسسة بإنشائها بالمدة الزمنية المطلوبة خلال أربعة أعوام من إعلانها لتصل إلى 100 كلية تميز فإنها ستستوعب 150 ألف متدرب كحد أقصى.
لكن الدور المطلوب لتعزيز حجم الشريحة المهنية من شباب الوطن يبقى تحدياً، يستوجب تفعيل العديد من الأدوار لجهات عدة، تسهم في الوصول بأعداد المهنيين ليكونوا قوة دافعة للاقتصاد، وتخفض بنسبة كبيرة الاعتماد على الوافدين الذين يشكلون النسبة العظمى حالياً بسوق العمل، فما زالت نسبتهم الكلية بالقطاع الخاص بمختلف المهن تمثل 85 في المئة، ولن تقل نسبة المهنيين عن هذا الرقم، بل قد تتعدى 90 في المئة حسب تصنيفهم المهني لو دققت الأرقام بموجب المهنة وطبيعة العمل.
وجميل أن يكون للمؤسسة دور تدريبي وسعي لأن يكون المتدرب مطمئناً إلى أنه سيحصل على وظيفة، لكن بنهاية المطاف إذا لم تتخذ إجراءات عديدة سيبقى أثر ما تقوم به المؤسسة محدوداً، وسيصل للذروة قريباً. وحتى يتعزز دورها لا بد من التركيز على عدد من الحلول التي يمكن لها أن ترفع من نسبة نجاح دور المؤسسة المأمول في أكبر اقتصاد عربي. ومن بين هذه الحلول:
التركيز من مختلف الجهات، سواء وزارات التعليم والإعلام، على رفع الوعي بثقافة العمل بحيث تترسخ في ذهنية الشباب أن العمل جزء أصيل من دوره بمجتمعه قائم على الإنتاجية، وليس مجرد مكان يقضي به وقته للحصول على راتب شهري، إضافة إلى الدخول بتفاصيل أنواع الأعمال وقيمتها وأهميتها.
رفع معدلات القبول بمعاهد وكليات المؤسسة لنسب مرنة أعلى من الحالية من خريجي الثانوية خلال السنوات القادمة، وتغييرها بحسب احتياجات السوق، وذلك من خلال الزيادة بأنواع برامج التدريب؛ لتدخل بكل احتياجات السوق مع ربط القبول بالمفاضلة العامة، وتحويل مرجعية المؤسسة لوزارة التعليم.
التفكير في إنشاء ثانويات مهنية، يذهب خريجوها لمعاهد المؤسسة تلقائياً كما هو معمول به في العديد من دول العالم، سواء العربية أو الأجنبية؛ لأن من شأن ذلك أن يرفع من ثقافة الشباب بأهمية العمل المهني.
للمؤسسة شراكة بكلية ريادة الأعمال، ويحصل فيها الخريجون أو الملتحقون على تمويل من بنك التسليف والادخار إلا أن الحاجة تتطلب أيضاً دعماً من وزارة التجارة والصناعة عبر إدارة المدن الصناعية لتخصيص مساحات للورش الصغيرة، إضافة لتخصيص الأمانات لمساحات بالمواقع المخصصة للأعمال المهنية بالمدن، وكذلك يمكن ربط الدعم المالي لمشاريع الخريجين بشركات كبرى، تتبنى دعمهم والحصول على خدماتهم من خلال ورشهم أو مصانعهم الصغيرة؛ حتى يكونوا منافسين حقيقيين للبضائع والخدمات المستوردة، ويمكن أن يتم الكثير من هذه الشراكات مع وزارات الصحة والتعليم و الهيئة العامة للاستثمار وغيرها؛ لتكون بوابة نجاح متكاملة بداية من التدريب إلى التمويل إلى الاحتضان من المستفيدين المحتملين من مشاريعهم، سواء القطاع العام أو الخاص.
كما يمكن أن يفرض توظيف الخريجين المهنيين لدى الوزارات والجهات الحكومية بخدمات الصيانة والتشغيل، سواء بشكل مباشر أو عبر الشركات التي تقدم خدمات الصيانة؛ حتى ترتفع نسبتهم بهذا المجال الحيوي، ولا يبقى الاعتماد على الوافدين كما هو حالياً لتتقلص نسبهم مع الوقت، أي أن يكون كل ملتحق ببرامج المؤسسة موفراً له وظيفة إلا إذا هو لم يرغب بذلك.
كما يمكن عند ارتفاع أعداد المقبولين ببرامج المؤسسة أن تقوم وزارة العمل تدريجياً بخفض نسب إصدار التأشيرات للأعمال المهنية؛ لكي يتم استيعاب المتخرجين من المواطنين، وذلك وفق إحصاء دقيق لكل مهنة، ويكون الخفض بالأعداد للتأشيرات وفق أعداد المواطنين المتخرجين بكل مجال، مع ربط برنامج هدف بدعم المرحلة الأولى لعملهم مهنيين، ويكون بمزايا تختلف عن أعمال أخرى.
أيضاً للعامل النفسي بمسميات الشهادات دور مهم في الترغيب في الإقبال على التدريب والتخصصات المهنية، فبدلاً من تسميتهم بفنيين يمكن أن يسموا بشهاداتهم «مساعد مهندس» بتخصصه، وهذا ما هو معمول به بدول مجاورة عدة، ويمكن لهذا الخريج أن يكمل دراسته الجامعية بتخصصه ليكون مهندساً وفق ضوابط وآليات يتم الاتفاق عليها وتنظيمها مع وزارة التعليم، وتلزم الجامعات بها، ولتكن للمتفوقين من المعاهد؛ ليكون هناك تحفيز أوسع لهم.
أيضاً لا بد من تطوير الكادر الوظيفي للمهنيين من قبل وزارة الخدمة المدنية أو الجهات التي لها استقلال وظيفي عن كادر الخدمة المدنية، وذلك برفع رواتبهم ومزاياهم الوظيفية لتفوق نظراءهم بالأعمال الإدارية الروتينية، أو تلك التي لا تعطي حجم إنتاجية يوازي دور وإنتاج المهنيين.
الشريحة المهنية تعد عصب الحفاظ على زخم الاقتصاد الوطني، وتعزيز دور الشباب فيه يعد استراتيجية ملحة؛ لما تحمله من جوانب أمنية واجتماعية واقتصادية مهمة جداً لخفض نسب البطالة الحالية والمستقبلية تحديداً، ولكي يعتمد اقتصادنا على شبابه وشاباته بالتشغيل، ولخفض حجم حوالات الوافدين التي فاقت 130 ملياراً سنوياً، وللمساهمة بالتحولات الاقتصادية نحو التنوع ورفع كفاءة المواطن الإنتاجية وفتح آفاق واسعة أمامه لتطوير أعماله.. فشركة هوندا للسيارات بدأت من خلال ورشة صغيرة للصيانة لتكون حالياً من كبرى شركات صناعة السيارات في العالم.