محمد سليمان العنقري
الحديث عن مخرجات التعليم كونها أحد أسباب البطالة ليس بالجديد، لكنه بالواقع يشوبه لغط كبير فلا يمكن القول بأنه سبب رئيس للبطالة كون المتخرجين لا تتناسب تخصصاتهم مع الفرص الوظيفية المتاحة بالاقتصاد، لأن الخلل أيضاً موجود بهذه الوظائف، فأكثر من 60 بالمائة من الوظائف بالقطاع الخاص تنحصر بقطاعين هما: التشييد والبناء والتجزئة، ومعلوم أن غالبية الوظائف بالقطاعين ذات متطلبات تأهيلية محدودة ودخل منخفض وتُصنف أغلبها بوظائف لا تحتاج لمؤهلات عالية كعمالة وبائعين، ولا تحمل استقراراً وظيفياً، وتُعد مؤقتة وزادت بسبب الإنفاق الحكومي الضخم على المشاريع والبنى التحتية التي لن تبقى بنفس الوتيرة دائماً، وهذا ما يعكس حقيقة أن 44 بالمائة من العاطلين يحملون مؤهلات ما فوق الثانوية، إما جامعية أو مهنية مما يوضح أن القطاعات التي تنتج وظائف تتطلب تأهيلاً عالياً وتعطي استقراراً وظيفياً ودخلاً جيداً ما زال نموها وتأثيرها محدوداً، كالصناعة وبعض القطاعات الخدمية الرئيسة.
إلا أن التقرير الذي نشرته المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني قبل أيام عن أن الجامعات أثّرت على معدلات الإقبال على برامجهم التعليمية والتدريبية سلباً بانخفاض الإقبال عليها، يثير ملفاً بغاية الأهمية حول مستقبل بناء الكوادر البشرية طبقاً لاحتياجات المستقبل من التخصصات التي يحتاجها سوق العمل عموماً سواء بالإحلال أو للوظائف التي يتوقع أن يُولّدها الاقتصاد، بخلاف نقطة جوهرية وهي أن أي دولة تحتاج إلى تركيب هرمي مناسب للكوادر التي تحتاجها لاقتصادها، بحيث تكون النسبة الأكبر هي للمهنيين، وليس للأكاديميين فقد تحتاج إلى مهندس بمشروع، ولكن ستحتاج معه إلى 4 أفراد بتخصص دبلوم مساعد مهندس وإلى عشرات المهنيين من مختلف التخصصات، وهؤلاء ليسوا بوظائف عمالة عادية، بل خريجو معاهد تقنية وفنية.
وإذا ما ألقينا الضوء على أرقام المقارنة بين المؤسسة والجامعات، نجد أن عدد المنتسبين من المتدربين للمؤسسة بكل كلياتها ومعاهدها في المملكة من الشباب والشابات يصل إلى حوالي 146 ألفاً، فيما يصل العدد بالجامعات إلى أكثر من 1.1 مليون طالب وطالبة سواء أكانوا منتظمين أو منتسبين، أي أن نسبة من يلتحقون ببرامج المؤسسة تصل إلى حوالي 13 % فقط، قياساً بالملتحقين بالجامعات وهي نسبة جداً متواضعة وتوضح مكمن الخلل ببناء الكوادر البشرية التي يفترض أن تكون النسب للمهنيين أعلى من الجامعيين، حتى ينافسوا على وظائف قائمة أو قادمة ويقل معها الاستقدام من الخارج ويكون هناك توسع بالاستثمارات بمجالات صناعية عديدة، لأن المستثمر لن يفكر كثيراً بمشكلة توفير الأيدي العاملة، وما قد يواجهه من عقبات بالاستقدام كون الكوادر المؤهلة متوفرة محلياً، وهي أحد العوامل الجاذبة للاستثمار.
كما أن نسبة الخريجين من برامج المؤسسة أيضاً محدودة قياساً باحتياجات السوق، فعدد من تخرجوا السنة الماضية بلغ 28 ألفاً، بينما يتخرج من الجامعات ما يفوق 100 ألف أي النسبة تعادل 28 % تقريباً، فيما يصل عدد من يتم استقدامهم مئات الآلاف سنوياً للعمل بالمملكة ونسبة جيدة منهم بتخصصات مهنية، فعدد العاملين بقطاع الصناعات التحويلية يقارب 900 ألف يمثّلون حوالي 9 بالمائة من مجمل العاملين بالقطاع الخاص، منهم حوالي 175 ألفاً من المواطنين بنسبة 19 بالمائة من العاملين بالقطاع، وأقل من 2 بالمائة من إجمالي العاملين بالقطاع الخاص من مواطنين ووافدين، وتقول المؤسسة بأن نسبة من تم قبولهم ببرامجها لهذا العام تمثّل 12 % من خريجي الثانوية، بالوقت الذي أوضحت بتقريرها أن هناك خطة تعليمية معتمدة تفترض أن يقبل 25 % من خريجي الثانوية ببرامج المؤسسة مما يُعد انخفاضاً كبيراً عن اعتمادات الخطة التعليمية، حيث وصلت نسبة من قُبلوا بالجامعات داخل المملكة إلى 83 % من أصل ما يقارب 380 ألف طالب وطالبة أنهوا المرحلة الثانوية.
ومن الواضح أن الأسباب قد تكون عديدة لتدني الإقبال على الالتحاق بالمؤسسة، لكن عدم ارتباط المؤسسة ببرامج القبول العام ووضعها ضمن برنامج المفاضلة لتكون من الخيارات المتاحة أمام الطلبة يُعد أحد أهم الأسباب، وهو ما يطرح بقوة أهمية نقل مرجعية المؤسسة إلى وزارة التعليم، بدلاً من وزارة العمل، بالإضافة إلى تطوير البرامج التدريبية وكذلك وضع أسس تحفيزية للملتحقين ببرامج المؤسسة سواء أثناء التدريب وما بعده بتمييزهم عن غيرهم بالرواتب والدعم المقدم من صندوق الموارد البشرية، بما يعني أن الاتجاه يجب أن ينصب على خطة تحفيزية واسعة لزيادة القبول بالمجالات التقنية والمهنية لما له من آثار إيجابية كبيرة على الاقتصاد لتقليل الاعتماد على الاستقدام ولرفع نسبة المهنيين بسوق العمل وتخفيض معدلات البطالة.
ميزانية المؤسسة تفوق 5.2 مليار ريال لهذا العام، بينما دورها إلى الآن لم يصل للمستوى المطلوب وتأثيرها محدود برفد الاقتصاد بالكوادر البشرية المهنية رغم أن العاطلين من خريجيها حسب تصريحات للمؤسسة محدودة جداً بمعنى أن هناك إقبالاً على خريجيها، ولكنها لم تصل إلى مرحلة أن تكون أحد الخيارات الرئيسة للشباب السعودي لأنها ما زالت بعيدة عن الحضور كخيار يعرض عليهم عند تحديد الرغبات لإكمال التعليم، ولرفع دور المؤسسة بالتأهيل للكوادر البشرية الشابة لا بد أن تتغير معطيات كثيرة من أولها ربطها بالجهة التعليمية الرئيسة، وهي وزارة التعليم وإدخالها من ضمن هيكل التوزيع للطلبة بالتخصصات ما فوق الثانوي مع تطوير ببرامجها وأدوارها بما يحتاجه سوق العمل والاقتصاد بصفة عامة لتعظيم العائد من الإنفاق العام على التعليم والتدريب لمجتمعنا الذي يُشكّل الشباب فيه النسبة العظمى من السكان.