أ. د.عثمان بن صالح العامر
أثارني واستوقفني كثيراً حوار داود الشريان في الثامنة عبر شاشة «mbc» مع الموقوف خالد المولد، الذي مر بأطوار عديدة وخالط أناسًا كثيرين من مختلف الأطياف، وعاش ظروفاً متناقضة ولدت شخصاً متطرفاً عقائدياً، مشوّهاً فكرياً، منهاراً نفسيًّا، محطماً اجتماعياً، منتحراً عقلياً، والشرارة والفتيل والوقود في أزمته الأخيرة والخطيرة التي جعلته يكفّر العالم كله من أيام الوليد بن عبد الملك وحتى تاريخه، مجرد شبهة لم يستطع أحد أن يقنعه بخلاف ما يعتقد فيها، ولم يقدر عالم من العلماء الذين قابلهم أن يعطيَه - حسب قوله - الرد المفحم والملجم له ولمن هم على شاكلته للأسف الشديد، ودون الخوض في أمر قبر الرسول عليه الصلاة والسلام وصاحبيه، أو التطرق لموضوع (إنكار المنكر باللسان، وعدم الإنكار باليد، وما يترتب عليه في الشريعة الإسلامية الصحيحة)، فإنني أعتقد أنّ هناك - بصورة عامة - ضعفًا في فقه الرد على الشبه في زماننا المعاصر، خلاف ما كان عليه الحال زمن السلف الذين أجادوا في تقصّي الشبه وتحليلها والرد عليها وتفنيدها مفصلاً، ومن شاء الدليل فليرجع للمكتبة الإسلامية وسيجد العجب.
لقد تبحروا في الفلسفة، وأجادوا علم المنطق، ووظفوا البراهين والحجج العقلية، وطوّعوا القياس والاستصحاب، وخاضوا المناظرات والمجادلات، وعقدوا جلسات الحوار والمدارسات، وكتبوا الرّدود والتعليقات المفصلة باللغة التي يفهمها القوم، كل ذلك من أجل ردّ الشُّبه التي كانت في زمانهم، وتبيان الحق الذي يعتقدونه ويدينون الله به.
الشُّبه ليست جديدة في حياة البشر، بل إنها ملازمة لبني الإنسان منذ الأب الأول آدم عليه السلام وحتى اليوم، وستظل إلى قيام الساعة، وليس من السهولة أن تزال الشبهة إذا علقت وتركزت في ذهنية الإنسان، إلا بالمحاجة العقلية التي تدحضها وتجتثها من جذورها، وإلا ستظل تتغذى بالوقائع والشواهد حتى تورد صاحبها الهلكة، ويقع على العلماء ومفكري الأمة ومثقفيها مسئولية تتبع هذه الشّبه التي عششت في رءوس قلة من أبناء المسلمين؛ فركبوا موجة التطرف والإرهاب والغلو تارة، أو التغرُّب والتغريب وصولاً للإلحاد تارات، وهذا ليس بالأمر الهين ولا هو المتاح للجميع؛ إذ يحتاج إلى تبحُّر في العلوم، ومعرفة بالتيارات والأفكار، ومتابعة للجديد في عالم التأليف والنشر والكتابة والتغريد في العالم الافتراضي المفتوح، وقراءة جيدة في الذهنية المعاصرة المصدرة لمثل هذه الشّبه والمغذية لها، وقدرة فائقة على الرّد المقنع، والبديهة وحضور الذهن، والفطنة والذكاء، وقبل هذا وذاك الحضور الفاعل، وامتلاك مهارات قراءة الناس والتأثير فيهم حتى يجد الشخص مريض الشبهة علاجه على يد هذا الإنسان، وإلا سيظل الإلحاد من جهة، والتطرف من جهة أخرى ينخران في جسد الأمة حتى يمرضانه، ولعلّي هنا أشيد بجهود بعض المراكز البحثية الخاصة في هذا الباب، وأتطلع إلى أن تنبري مؤسسة أكاديمية إلى تأسيس مركز بحثي متخصص في فقه الرّد على الشّبه أو أن تدعو رابطة العالم الإسلامي - وهي المبادرة والحريصة على المشاركة الفاعلة والحقيقية في ردم الهوة وعلاج الداء - تدعو لمؤتمر عالمي في هذا الباب، كما أنه من الضروري الاهتمام بعلم الاستغراب - كما ينعته البعض - الذي سأتحدث عنه هنا في القريب العاجل بإذن الله، دمتم بخير وتقبلوا صادق الود والسلام.