وارسو - عبدالله فهد أباالجيش:
تلبية لدعوة من جامعة وارسو في بولندا قام رئيس التحرير الأستاذ خالد بن حمد المالك بإلقاء محاضرة أمام طلبة ومسؤولي الدراسات الشرقية والإسلامية في معهد الدراسات الشرقية التابع للجامعة وذلك في 6 مايو 2015م، وكانت المحاضرة تحت عنوان (تجربة الصحافة السعودية في تناول القضايا من الرقابة المفروضة إلى الحرية المسؤولة).
وبحضور كل من سفير خادم الحرمين الشريفين بجمهورية بولندا الأستاذ وليد بن طاهر رضوان وسفير دولة فلسطين الأستاذ عزمي الدقة وممثلوا سفارات الكويت والامارات وقطر والعراق والبروفيسور المستشرق يانوش دانتيسكي المحاضر بعدد من الجامعات البولندية والدولية والبروفيسورة ايفا مانديستكا رئيسة قسم الدراسات العربية والإسلامية في معهد الدراسات الشرقية والبرفيسور جورج يعقوب أستاذ الدراسات الشرقية ولفيف من المستشرقين والأكاديميين البولنديين. وفيما يلي نص المحاضرة:
تعتمد الصحافة المرموقة، أينما وُجدت، ومن أي جهة تصدر، في الماضي والحاضر، على مبدأ حرية التعبير، وعلى القبول بالرأي والرأي الآخر؛ وذلك حتى تحافظ على نجاحها وتميزها، ما كان منها ورقياً أو إلكترونياً. وبدون تمتع الصحافة الناجحة بهذا الهامش الكبير من الحرية ما كان لها أن تبلغ ما بلغته من نجاح، وما كانت لتحقق كل هذا التميز في طروحاتها، وأن يكون لها كل هذا الحضور القوي والواسع بين أوساط القراء في مختلف توجهاتهم وتخصصات وانتماءاتهم.
* * *
وحرية التعبير لها قواعدها وضوابطها ومفاهيمها لدى الخاصة والعامة؛ فهي لا تعني التدليس والكذب والمبالغات الممجوجة، كما أنها لا تعني الاعتداء على حرية الآخرين والإساءة لهم دون وجه حق. وفي المقابل، يجب أن يصاحب هذا المناخ الذي يوفر للصحافة مساحة كافية للتعبير الحر، الارتقاء بمستوى المفردة والجملة والموضوع عن كل ما يسيء إلى الأفراد والمؤسسات والمجتمعات. وهذا لا يتأتى إلا من خلال الالتزام بالنقد الموضوعي، الذي ينبغي أن يتسم بالصدق والنزاهة والبحث عن المصلحة العامة.
* * *
كما أن حرية التعبير قد يدخل من بابها أو من نافذة فيها مَنْ يستغل هذا المبدأ الذي نحترمه جميعاً، بأن يسيء إلى الأبرياء، ومثله مَنْ يقول كلاماً عن الآخرين هو أبعد ما يكون عن حرية الرأي، كأن يستخدم عبارات مبتذلة، وجُملاً بينها وبين الحرية المقصودة مسافات بعيدة وتناقض كبير. فالهدف من حرية التعبير في الصحافة السعي نحو إصلاح ما هو فاسد، وتقويم ما هو معوج، اعتماداً على الإحصائيات والأرقام والحقائق الموثقة بالمعلومات والمستندات والوثائق؛ حتى لا تفقد الصحافة مصداقيتها؛ وبالتالي يهرب الناس من متابعتها.
* * *
ومع وضوح القواعد والقوانين والأعراف الحقيقية لحرية التعبير، فإننا أمام بعض صحف تلتزم بهذا المنهج السليم، وتعبِّر دائماً عن احترامها له، وحرصها على التمسك به، وصولاً إلى وضع وسيلتها الإعلامية ضمن مجموعة الصحف التي تعبِّر بصدق عن هموم المجتمع والمؤسسات بمهنية عالية، وبمصداقية لا يُشَكُّ فيها.. إلا أن الأمر لا يبدو دائماً كذلك مع صحف أخرى، بل نرى ما يناقضه، وبالتالي فلا يمكن أن تصنف هذه الصحف على أنها ضمن منظومة ما يطلق عليه صحافة الرأي والرأي الآخر، أو ما يعرف بالصحافة التي تلتزم بمعايير حرية التعبير بشيء من الشفافية والصدق واحترام الآخرين.
* * *
على أن التزام أي صحيفة بحرية التعبير إنما يعتمد أولاً على ناشرها ورئيس تحريرها ومساعديه، وبالقدر الذي يؤمنون جميعاً بحرية الرأي، وفقاً للمفهوم المتفق عليه، واعتماداً على الأعراف التي يجمع عليها من يمارس أو يعمل في هذه المهنة، والتي منها إعطاء الفرص بقدر متساوٍ وعادل لكل من يريد أن يعبِّر عن رأيه بحرية كاملة، بصرف النظر عن بُعده أو قربه من الصحيفة والعاملين بها، طالما كان ملتزماً بمفهوم حرية التعبير، ويتحرك ضمن إطارها الصحيح.
* * *
ومع بروز الكثير من السلبيات، بسبب سوء استخدام بعض الصحف هذه الحرية بشكل خاطئ، والبُعد عن مفهومها، والإساءة لها، وتكريه الناس بما يقال ادعاءً بأنها حرية رأي، فلا ينبغي على رجال الصحافة في مقابل ذلك أن يتخلوا عن ممارسة مهنتهم، بل إن عليهم الالتزام بالطرح الحقيقي الحر، كما أن عليهم أن يتمسكوا بهذا الحق، فلا يصابوا بالإحباط، أو الهزيمة والانكفاء، من جراء هذا التضارب في المفاهيم والممارسات لحرية التعبير بين صحيفة وأخرى؛ حتى لا يعطوا أعداء حرية التعبير فرصة لإفشال أحد مقومات نجاح الصحافة والصحفيين.
* * *
هذا باختصار مفهومي لحرية التعبير في الصحافة بشكل عام، مما يفترض أن يكون ضمن إطار عملها على مستوى العالم، ودون أن تتحول الحرية بمفهومها الصحيح إلى فوضى كلامية تثير البغضاء والكراهية بين المجتمعات والأفراد، أو تكون حصان طروادة في تعميق الخلافات والصراعات بين الدول، أو أن تكون سبباً في نشوء بيئات مسيئة للأخلاق، ومؤججة للخلافات بين معتنقي الأديان، أو معول هدم للحضارات الإِنسانية، والإنجازات المهمة التي حققها الإِنسان في حقب مختلفة من دولة لأخرى، فنحن نتحدث عن صحافة حرة نقيس ما يكتب فيها بإخضاعه للتجارب الإنسانية التي أثرت البشرية بالكثير من الإنجازات والنجاحات والأعمال الخالدة.
* * *
لكن ماذا عن بلدي، عن المملكة العربية السعودية تحديداً، التي تصدر فيها وعنها مجموعة من الصحف، ويعمل في بلاطها عدد لا يُستهان به من الصحفيين، حيث تلاقي هذه المهنة اهتماماً خاصاً للعمل بها من المواطنين، فقد مرَّت الصحافة السعودية بأطوار مختلفة خلال أزمنة فرضت عليها الكثير من التغيير في اللوائح والأنظمة والقوانين لتكون في مستوى التحدي، ولتجاري صحافة العالم باستخدام أحدث وسائل التقنية، ضمن التوجه نحو تقديم صحافة تليق بسمعة ومكانة المملكة، وتبرز مكانها بين منظومة الصحف التي يشار إلى تمتعها بهامش كبير في حرية التعبير عند تناولها للقضايا وتغطية الأحداث التي تهم الرأي العام، حيث ينتظر القارئ من الصحافة أن تناقشها بموضوعية وحرية مسؤولة.
* * *
هناك من ينظر إلى تجربة الصحافة السعودية في تناولها للقضايا والمستجدات في المملكة بشكل خاص وفي العالم بشكل عام على أنها تجربة تلاحقها الرقابة الحكومية المفروضة، وهناك من يرى أن الصحافة في المملكة تتمتع بممارسة ما يُتَعَارف عليه على أنه حرية مسؤولة، وهذا هو موضوعي في هذه الإطلالة عبر جامعتكم العريقة، إِذْ يهمني - وقد اخترت هذه الموضوع تحديداً - أن أضعكم في أجواء عملنا في صحافة المملكة، فقد لا تكونون على علم بأسلوب تعاملها مع التطورات والأحداث المهمة، ومدى تفاعلها مع ما يهم الرأي العام، وأنتم في هذا معذورون لغياب الصوت الصحفي السعودي من الوصول إليكم، وبالتالي محدودية المعلومات المتوفرة التي يمكن لكم الاستعانة بها لتحديث معلوماتكم عنها، ومن ثم تحديد موقفكم منها.
* * *
لقد ارتبط تاريخي على مدى خمسين عاماً بالصحافة؛ ولهذا فقد كنت ولا زلت قريباً منها، وقادراً على أن أعطي معلومات عنها ليس كشاهد فقط، وإنما كقيادي مسؤول تسمح لي تجربتي الطويلة بأن أقدّم لكم شيئاً عن الجانب الرقابي في الصحافة السعودية، وأثره بما هي عليه الصحافة من حرية في التعبير، وسأكون في هذا صريحاً وصادقاً ومخلصاً لرأيي، لا أجامل فيه، ولا أغيِّب حقيقة يجب أن تقال، فكل كلمة أقولها، أو رأياً أدلي به، إنما يمثل جزءاً من تاريخي وعملي على مدى نصف قرن في الصحافة، ولهذا فكونوا على ثقة بما سأقول لكم.
* * *
لقد كانت النشأة الحقيقية للصحافة في المملكة - بحسب الدكتور محمد الشامخ - قد بدأت عام 1942 بإنشاء صحيفة أُم القرى التي صدرت بعد دخول مؤسس المملكة الملك عبد العزيز إلى الحجاز بفترة وجيزة، وبعدها صدرت عدة صحف قبل أن يصدر نظام المؤسسات الصحفية عام 1964م الذي بموجبه تم توقف ما يسمى صحافة الأفراد، لتصدر نفس صحف الأفراد لكن عن طريق مؤسسات صحفية، وفق نظام دقيق صدر أولاً ثم تم تعديله أكثر من مرة؛ بهدف تطوير مستويات الصحف وضمان استمراريتها، وهي مؤسسات أهلية لا علاقة للدولة بها، ولا تحصل على أي دعم مادي منها، كما أنها لا تخضع لرقابتها، إِذْ إن مهمة الرقابة من مسؤوليات رؤساء التحرير، والمؤسسات هذه هي من تختار رؤساء التحرير، على أن أي تجاوزات تسيء إلى الأفراد أو المؤسسات أو للدولة دون سبب مبرر، يتم التعامل معها من خلال لجنة قانونية تنظر في أي تظلُّم شأن الصحف السعودية في ذلك كشأن كل صحف العالم.
* * *
لقد رُئي لتحسين محتوى الصحافة السعودية أن يتناغم ما ينشر فيها مع المصلحة العامة، وأن يكون مستوى الجودة فيها عالياً، فكان التحول من صحافة أفراد إلى صحافة مؤسسات لها هياكلها وأجهزتها، وتتمتع برؤوس أموال كبيرة تمكنها من الصدور بمستويات عالية، وقد ساعدت القرارات والسياسات ذات الصلة بالمؤسسات الصحفية في تبنّيها لرؤى جماعية في عملها من خلال تشكيل مجلس إدارة وجمعية عمومية وأجهزة تنفيذية لكل مؤسسة صحفية، والسماح لكل مؤسسة إذا أرادت إصدار أكثر من صحيفة.
* * *
وتنظيم صحافة المؤسسات تشكَّل من خلال نظامين، سُمِّي أحدهما بنظام المطبوعات، والآخر أُطلق عليه نظام المؤسسات الصحفية، وفي بنودهما الكثير من الضوابط التي نستوحي منها فكرة عنوان هذه المحاضرة، (تجربة الصحافة السعودية في تناول القضايا من الرقابة المفروضة إلى الحرية المسؤولة). وربما تساءل بعضكم كيف يمكن التوفيق بين الرقابة المفروضة والحرية المسؤولة، وهو سؤال وجيه، والإجابة عنه تقودنا إلى القول بأن رئيس التحرير هو المسؤول عن كل ما يُنشر في الصحيفة، وهو من يرسم قواعد وضوابط النشر للمحررين، فالدولة لا تتدخل في شيء تنشره الصحيفة، طالما التزمت بالضوابط وأخلاقيات المهنة، ونأت فيما تنشره عن الإساءة للدين، ولم تتعرض بما يسيء إلى الملك وولي العهد وولي ولي العهد، وعامة الناس، أو ما يعرض سلامة الوطن للخطر.
* * *
إن اعتماد صحافة المملكة على المصداقية في محتواها، وعدم الكذب والتدليس، هي قواعد ومنهجية ومبادئ، تلتزم بها الصحافة السعودية، ولا تتخلى عنها في جميع ما يُنشر فيها، مع احتفاظها بحقها في ممارسة حريتها عند تناولها للقضايا التي تكون ضمن اهتماماتها، على أن ذلك لا يلغي الرقابة المسؤولة لا المفروضة من جانب رئاسة التحرير على ما تنشره الصحيفة؛ كي يحافظ بها على احترام القراء لها، وبالتالي يضمن تحقيق المستوى الجيد الذي ينافس به الصحف الأخرى، مع التركيز على ما يسهم في نجاح الصحيفة باستحواذها على أكبر شريحة من القراء ومن المعلنين، باعتبارهما مؤشراً على سلامة الخط الذي تنتهجه الصحيفة.
* * *
إن الرقابة على الصحافة في حدود عدم تجاوزها لرسالتها، وحمايتها من أن تُستَغل أو تُوَظف لغير ما ينبغي أن تكون عليه، هي رقابة مقبولة ومطلوبة، ولا يُعَدُّ ذلك حرماناً أو منعاً من تمتعها بالحرية المسؤولة، غير أن الرقابة في غير ذلك، هي عندئذ تقييد للصحافة، حائل بينها وبين تأدية ما هو مطلوب منها، وعقبة دون تطورها ومواكبتها للأحداث، وهو ما تحاول الصحافة السعودية أن تتجنبه مستفيدة من الأنظمة ذات الصلة التي تسمح لها بممارسة عملها دون معوقات.
* * *
وللإيضاح أكثر، ففي صحافة المملكة، يتمتع الصحافيون فيها بقدر كبير من الحرية في إبداء آرائهم بموضوعية، دون وجود رقيب عليهم، أو معوقاً لممارسة عملهم، معتمدين في ذلك على أنظمة وقوانين تحميهم من الغير وتحمي الآخرين منهم، مما رسخ القيم والأخلاقيات، وخلق أجواء مشجعة لممارسة العمل الصحفي في المملكة دون ضغوط، وأقنع المنتسبين لها بالتزام النقد الهادف البناء في كتاباتهم، وعدم نشر معلومات غير صحيحة، والحرص على التوثيق والاعتماد على مصادر موثوقة بقدر المستطاع فيما ينشر في الصحافة من أخبار ومعلومات وآراء.
* * *
كل هذا يتم بين الصحفيين السعوديين بتفهم واستيعاب وفهم، وشعور بأنه يحقق لهم الحرية في ممارسة عملهم، ضمن حرية مسؤولة، تقوم على احترام الغير، وتنطلق من الشعور والقناعة بأن الصحافة سلاح ذو حدين، وأنه يجب توظيفها بما يجعل منها معول بناء لا معول هدم، وأن تكون كما رُسم لها مهيأة لخدمة الناس، تنقل همومهم، ووجهات نظرهم، وتتبنى إيصال أصواتهم وآرائهم، وتمكنهم من الحصول على مساحات كافية في صفحاتها لهذا الغرض، ليشعروا بأنهم جزء من الصحيفة، وأن لهم دوراً مهماً وفاعلاً ضمن جهاز تحريرها، وهذا ما تعمل الصحف السعودية على تبنيه وتحقيقه.
* * *
الحرية المسؤولة في الصحافة السعودية التي نعنيها في عنوان هذه المحاضرة، تعني الانطلاق لا الانغلاق، والشعور بالمسؤولية فيما ينشر فيها، وأن ينأى المسؤولون والمحررون فيها من الاستخدام السيئ لمفهوم الحرية، وبالتالي أن يكون عملهم وممارستهم للمهنة ضمن قانون يحميها من جهة ويمنع تجاوزاتها من جهة أخرى، ومن دون أن ترتهن لقوى قادرة لشراء توجهاتها بالمال، فتفسد بذلك كل دور بناء يفترض أن تلعبه ويكون لصالح كل شرائح المجتمع.
* * *
وتجربة الصحف السعودية مع الحرية، تجربة غنية بالدروس، فهي تلتزم بالمبادئ والأهداف التي لا تضلل أو تداهن أو تمارس الكذب، لإيمان القائمين عليها بأنها لو فعلت ذلك لكانت في وضع من يخدع قراءها، ويسرق حقهم في الحصول على المعلومة الصحيحة، بينما يجب أن تلتزم بمبدأ الاعتدال والموضوعية والنزاهة والصدق، مع هامش غير قليل من حرية التعبير، ما يجعلها تحافظ على مواقع متقدمة بين وسائل الإعلام الأخرى، وتستقطب عدداً مناسباً من القراء ممن ينظرون إليها عندئذ على أنها على مدى قريب ومسافة معقولة من الحرية المنشودة.
* * *
أريد أن أذكركم بأن هناك شبه إجماع في المملكة، بأن من يطالب برفع سقف الحرية في الصحافة السعودية يرى في مقابل ذلك ضرورة أن تلتزم بالموضوعية والصدق والنزاهة، وأن يكون لها دور مؤثر في العمل على حماية المكتسبات الوطنية، سواء ما كان منها أمنياً أو اقتصادياً وفي كل ما ينشر فيها، بمعنى أن الصحافة من وجهة نظرهم يجب أن تتنفس بحرية ودون معوقات، ولكن ضمن أهداف مرسومة تلامس مصالح الوطن والمواطن، وتضمن عدم تعرض البلاد وأمن المواطنين للخطر، فالحرية بسقفها العالي مرحب بها في المملكة ضمن هذا المفهوم.
* * *
وعلي أن أعترف أيضاً بأن هناك مساحة من الحرية متاحة للصحافة السعودية، لكن ربما أن هذا الهامش من الحرية لم يُستخدم كما ينبغي من قِبل بعض رؤساء التحرير، مع أن هذا الانطباع السريع لا يلغي أن هناك موضوعات يومية كثيرة، تنشرها صحف هؤلاء عن قضايا محلية ملحة، وفيها الشيء الكثير من النقد الذي يتسم بشيء من الحرية، متى ما ظهر للصحيفة وللمسؤولين فيها وجود أخطاء وقصور في النشاطات الموجهة لخدمة المواطن، بحكم مسؤوليتها كباقي الصحف الأخرى في إيصال ذلك إلى المسؤول موثقاً، لضمان معالجة مثل هذا القصور.
* * *
وسوف يلاحظ من يتابع ويقرأ الصحف السعودية أن هناك تبايناً غير قليل بينها، ليس فقط في استخدامها لحرية التعبير فيما يُنشر فيها، ولكن أيضاً في متابعاتها وتركيزها على المستجدات والتطورات محلياً وعالمياً؛ فالفروقات بينها من حيث الاهتمام وإعطاء المساحات يعود إلى تقييم الصحف، وتفاوت وجهات النظر بين صحيفة وأخرى، واقتناعاتها بما ينبغي أن تكون عليه تغطياتها لهذا الحدث أو ذاك. وليس لهذا من تفسير عندي سوى أن الصحف السعودية تتعامل مع الحرية وفق وجهة نظر كل صحيفة، وهذا حقها في مناخ يتيح لها التمتع بالحرية، ويسمح لها باستخدام ذلك في عملها الصحفي.
* * *
ولا بأس أن نذكّر أيضاً بأن الصحافة السعودية هي صحافة أهلية، وليست حكومية، كما أشرت إلى ذلك من قبل، وأنها تلتزم بمعايير النشر بحرية مسؤولة، وتهتم بالدفاع عن الحقوق المشروعة للناس، ومحاربة الفساد، وتأصيل القيم والأخلاق، والتحبيب والترغيب بالسلام والعدل، دون أي إساءات للآخرين. بمعنى آخر: إن الصحافة السعودية تصدر بقوالب تراعي الخصوصيات وخدمة الأمة، والابتعاد عن كل ما يثير النزاعات والقلاقل، أو يشعل الخصومات، ويروج للشائعات؛ ما قد يكون سبباً في التحوُّل من الاستقرار والأمن إلى الفوضى وعدم الالتزام بالأنظمة والقوانين.
* * *
وليس المطلوب أن تتطابق وجهات النظر بين جميع الصحف السعودية في تبنيها للقضايا المهمة، أو عند تعاملها مع المستجدات؛ فلكل صحيفة توجهاتها وسياساتها، ولكن من الطبيعي والضروري أن يجمعها كقاسم مشترك مع وجود هذه النظرة الجزئية المختلفة من صحيفة لأخرى الالتزام بالحرية المسؤولة، وعدم الانغلاق أو الانكفاء أمام أي تطورات جديدة، سواء على المستوى المحلي أو العربي أو العالمي. فهذا الأسلوب يخلق تنوعاً في المناقشات، ويساعد على تعدد الآراء ووجهات النظر، وبالتالي يمكِّن الصحف من كسب الكثير من القراء ذوي التوجهات المختلفة، بالتزام الصحف السعودية بما يمكن تسميته بالحرية المسؤولة.
* * *
ولا أعتقد أن أحداً في السعودية يطالب الصحف بأن تمارس دورها بحرية غير مسؤولة، أو يقول من الأفضل لها أن تمارس حريتها بشكل سلبي، من أن تمارسها بشكل مسؤول؛ لأننا لو أخذنا بالخيار الأول فإننا نفرغ الصحافة السعودية من أي مضمون يخدم الناس ويساعدهم في كل شيء، بينما يمكن للصحف أن تحقق لقرائها ما يتطلعون إليه ضمن حرية بضوابط مرنة، تحول دون التجاوزات، ولا تلغي حقها المكتسب في الحرية المسؤولة؛ وبالتالي التعاطي بإيجابية مع مبدأ الحرية في جميع ما ينشر فيها، وبما يسمح للصحافة بأن تعبر فيه عن وجهات نظرها ضمن مناخ نقي، لا يلوث الصحافة؛ فيجعلها تخرج عن أهدافها المرسومة.
* * *
أختتم هذه المحاضرة بما سبق أن قلته في محاضرة سابقة لي في موقع آخر، بأنه يجب أن ينظر إلى الصحافة على مستوى العالم لا على مستوى صحافة المملكة فقط، بأنها مسؤولة عن إرساء التقاليد والأعراف والحقوق التي تنسجم مع المفهوم الحقيقي لحرية الصحافة، وهذا يعني التزامها بالمبادئ التي لا تسمح لكائن من كان بتوظيفها لمصالحه وأهدافه الضيقة، فـ(مافيا) المال جاهزة بمغرياتها للإطباق على هذه القيم، مثلما أن التهديد وتعريض حياة الصحفيين للخطر يتم أيضاً استخدامهما كسلاح لمنع تطبيق مبادئ العدل والإنصاف، ومنع الصحفيين من قول الحقيقة. وأنا على يقين بأن الصحافة المستنيرة هي التي تتمتع بالاستقلالية، وحرية التعبير، مع الالتزام بالخطاب الصحفي الذي يرتقي إلى مستوى المسؤولية، وهذا ما أتمنى أن أكون قد أوضحته لكم ضمن تجربتي عن صحافة المملكة العربية السعودية.