د. خيرية السقاف
لا أحسب أن حضارة المرء لا تكون إلا بملازمة حمل جهاز الهاتف المتنقل بيد الفرد حيث يمشي، ويجلس, ويعمل,..
في المطار, وفي آخر لحظات قبل تحرك الطائرة, وأول لحظة لها قبل أن تلمس عجلاتها أرض المطار, وفي العربة, والسوق, بل في «بيوت الراحة» كما كان يتعارف الأقدمون على هذا المسمى لدورات المياه... وعلى الدرج الكهربائي حيث يكون، فوق التلة، وعند المقبرة.., بل في المسجد، وقبل الصلاة, وبعدها على الفور,..
بل في اللحظات التي تكون للإنصات لمحاضرة، أو في مؤتمر، أو بين متناقشين..!!
بل هي ظاهرة حادة لعدم الوعي, والاندفاع الكلي..، والاستغراق التام في الاستهتار,..
بل هي دليل قاطع على هشاشة الثقة بالنفس...!!
تماما كأولئك الذين لا يقيسون غنى المرء إلا بساعته الثمينة..، وعربته الفارهة..، وأثاث بيته المستورد,.. وعدد حشمه,.. وخدمه,...
فهؤلاء يجردون كلمة الغِنى عن معانيها الرفيعة..، الأصيلة..، والثابتة..، إذ لا يعني عندهم مفهوم الغنى أنه الكامن في العقل ادراكا وعيا، حين يكون العقل ثريا بالعلم والخبرة، والفكر بلماحية والحكمة، والنفس بالعفيفة الشفيفة، والخلق بالقيم القويمة, والدلالات السلوكية الملموسة, والسلوك بالاستقامة..، والنفس بالعفة.., والقلب بالإيمان و التقوى..!!
فالغنى هو هذا, لأن مفرداته غير قابلة لا للحرق..، ولا للفناء..، ولا للضياع..، ولا للسرقة..!!
إن مجتمعا مريض بمتلازمة الجوال, وأجهزة التواصل,..
لأنه خاضع لاستعمارها وقتُ أفراده..، مستسلم لهيمنتها على مساحات حركتهم, ومواقع وجودهم.., وأمكنة تنقلهم..،
مجتمع يتهالك تماما كل بناء قائم في غناه بمفرداته الكامنة دلالتها في مكنونهم..!
مجتمع يبدد وقته.., ويشتت جمعه..، ويقضي على جهده...!!
لذا فإنهم هؤلاء الغالبية العظمى فيه من أفراده يجعلونه مجتمعا غير حضاري ..فسلوكهم لا يدرجهم ضمن المتحضرين.., بما يسمه بهذا..
فارحموا أيديكم..، وعيونكم من استهلاككم كل ما يستعمركم من هذه الأجهزة..
إلا ما كان عنها يحقق هدفَ، وغرضَ حاجةٍ صُنعت لأجلهما لاستخدامها للحاجة تلك, والغرض ذلك، فيتحقق عنها الوجه الآخر للحضارة..!!
فيوسم المجتمع بالمتحضر, وتوسمون..!!
فلا تستهلككم المنجزات بل سخروها لحاجاتكم، واستهلكوها لأغراضها..على الوجه الموجب..!!